إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
المسلك الثامن

الطرد

قال في المحصول : والمراد منه : الوصف الذي لم يكن مناسبا ، ولا مستلزما للمناسب ، إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع ، [ ص: 638 ] وهذا المراد من الاطراد والجريان ، وهو قول كثير من فقهائنا ، ومنهم من بالغ فقال : مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة; يحصل ظن الغلبة .

احتجوا على التفسير الأول بوجهين :

( أحدهما ) : أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب يلحق بالغالب . فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع مقارنا للحكم ، ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع ، وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم إلحاقا لتلك الصورة بسائر الصور .

( وثانيهما ) : إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير; غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير ، وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة .

واحتج المخالف بأمرين :

( أولهما ) أن الاطراد : عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم ، وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع ، فإذا أثبتم ثبوت الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة ، وأثبتم عليته بكونه مطردا; لزم الدور وهو باطل .

( وثانيهما ) : أن الحد مع المحدود ، والجوهر مع العرض ، وذات الله مع صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية .

والجواب : أن نستدل بالمصاحبة في كل الصور غير الفرع على العلية ، وحينئذ لا يلزم الدور .

وعن الثاني : أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور ، منفكا عن العلية ، وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا ، كما أن الغيم الرطب دليل المطر ، ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا .

وأيضا : المناسبة ، والدوران ، والتأثير والإيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ، ولم يكن ذلك قدحا في كونها على العلية ظاهرا ( فكذا ها هنا ) انتهى .

وقد جعل بعض أهل الأصول الطرد والدوران شيئا واحدا ، وليس كذلك ، فإن الفرق بين الطرد والدوران أن الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم ، والدوران [ ص: 639 ] عبارة عن المقارنة وجودا وعدما .

والتفسير الأول للطرد المذكور في المحصول ، قال الهندي هو قول الأكثرين .

وقد اختلفوا في كون الطرد حجة ; فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة مطلقا وذهب آخرون إلى أنه حجة مطلقا .

وذهب بعض أهل الأصول إلى التفصيل ، فقال : هو حجة على التفسير الأول دون الثاني .

ومن القائلين بالمذهب الأول جمهور الفقهاء والمتكلمين ، كما نقله القاضي عنهم . قال القاضي حسين : لا يجوز أن يدان الله به ، واختار الرازي والبيضاوي أنه حجة ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة عن الصيرفي ، قال الكرخي : هو مقبول جدلا ، ولا يسوغ التعويل عليه عملا ، ولا الفتوى به .

قال القاضي أبو الطيب الطبري : ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية ، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق; فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم ، ويقولون إنها قد صحت ، كقولهم في مس الذكر : مس آلة الحدث ، فلا ينتقض الوضوء بلمسه; لأنه طويل مشقوق ، فأشبه البوق ، وفي السعي بين الصفا والمروة : إنه سعي بين جبلين ، فلا يكون ركنا ، كالسعي بين جبلين بنيسابور ، ولا يشك عاقل أن هذا سخف . قال ابن السمعاني وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة ، والاطراد دليلا على صحة العلية حشوية أهل القياس . قال ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية