إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 655 ] قال الآمدي : هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه لا له ، أو يدل عليه وله ، والأول قلما يتفق في الأقيسة .

ومثله في المنصوص : باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الخال وارث من لا وارث له فأثبت إرثه عند عدم الوارث ، فيقول المعترض : هذا يدل عليك لا لك; لأن معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له ، والصبر حيلة من لا حيلة له ، أي ليس الجوع زادا ، ولا الصبر حيلة .

قال الفخر الرازي في المحصول : القلب معارضة إلا في أمرين :

( أحدهما ) : أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة ، وفي سائر المعارضات يمكن .

( والثاني ) : لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل ; لأن أصله وفرعه أصل المعلل وفرعه ، ويمكن ذلك في سائر المعارضات ، أما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة .

قال الهندي : والتحقيق أنه دعوى; لأن ما ذكره المستدل عليه لا له في تلك المسألة على ذلك الوجه انتهى . وجعله ابن الحاجب وشراح كلامه قسمين :

( أحدهما ) : تصحيح مذهب المعترض ، فيلزم منه بطلان مذهب المستدل; لتنافيهما .

( وثانيهما ) : إبطال مذهب المستدل ابتداء ، إما صريحا أو بالالتزام . ومثال [ ص: 656 ] الأول يقول الحنفي : الاعتكاف يشترط فيه الصوم; لأنه لبث ، فلا يكون بمجرده قربة ، كالوقوف بعرفة .

فيقول الشافعي : فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة .

ومثال الثاني : أن يقول الحنفي في أنه يكفي مسح ربع الرأس : عضو من أعضاء الوضوء ، فلا يكفي أقله ، كسائر الأعضاء ، فيقول الشافعي : فلا يقدر بالربع ، كسائر الأعضاء ، هذا الصريح .

وأما الالتزام : فمثاله أن يقول الحنفي : بيع غير المرئي بيع معاوضة ، فيصح مع الجهل بأحد العوضين ، كالنكاح ، فيقول الشافعي : فلا يثبت فيه خيار الرؤية ، كالنكاح .

وقد ذهب إلى اعتبار هذا الاعتراض الجمهور ، وأنه قادح .

وأنكره بعض أهل الأصول ، وقال : إن الحكمين ، أي ما يثبته المستدل ، وما يثبته القالب ، إن لم يتنافيا; فلا قلب ، إذ لا منع من اقتضاء العلة الواحدة لحكمين غير متنافيين ، وإن استحال اجتماعهما في صورة واحدة ، فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه; فلا يكون قلبا; إذ فيه من الرد إلى ذلك الأصل .

وأجاب الجمهور عن هذا بأن الحكمين غير متنافيين لذاتهما ، فلا جرم يصح اجتماعهما في الأصل ، لكن قام الدليل على امتناع اجتماعهما في الفرع ، فإذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل ; امتنع ثبوت الحكم الأول ، وظاهر كلام إمام الحرمين أنه لازم جدلا لا دينا .

وقال أبو الطيب الطبري : إن هذا القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا ضرر ولا ضرار في مسألة [ ص: 657 ] الساحة قال : وفي هدم البناء ضرار بالغاصب ، فقال له أصحابنا : وفي بيع صاحب الساحة لساحته إضرار به .

قال ومن أصحابنا من قال : لا يصح سؤال القلب ، قال : وهو شاهد زور ، يشهد لك ويشهد عليك ، قال : وهذا باطل ; لأن القالب عارض المستدل بما لا يمكن الجمع بينه وبين دليله ، فصار كما لو عارضه بدليل آخر .

وقيل : هو باطل ، إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية .

ومن أنواع القلب : جعل المعلول علة ، والعلة معلولا ، وإذا أمكن ذلك تبين أن لا علة ، فإن العلة هي الموجبة ، والمعلول هو الحكم الواجب لها .

وقد فرقوا بين القلب والمعارضة بوجوه :

منها ما قدمنا عن الفخر الرازي .

وقال القاضي أبو الطيب الطبري ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي : إنه معارضة ، فإنه لا يفسد العلة .

وقال ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " والحق أنه نوع معارضة ، اشترك فيه الأصل والجامع ، فكان أولى بالقبول .

التالي السابق


الخدمات العلمية