إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
البحث الثامن .

في أن اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا بكونه مجازا ؛ لخروجه عن حد كل واحد منهما ، إذ الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له .

وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز ; لأن اللفظ قد يستعمل في ما وضع له ، ولا يستعمل في غيره ، وهذا معلوم لكل عالم بلغة العرب .

واختلفوا هل يستلزم المجاز الحقيقة ، أم لا بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له ، ولا يستعمل في ما وضع له أصلا ؟

فقال جماعة : إن المجاز يستلزم الحقيقة ، واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يستلزم لخلا الوضع عن الفائدة ، وكان عبثا ، وهو محال .

[ ص: 107 ] أما الملازمة : فلأن ما لم يستعمل ، لا يفيد فائدة ، وفائدة الوضع : إنما هي إعادة المعاني المركبة ، وإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فانتفت فائدته .

وأما بطلان اللازم فظاهر .

وأجيب : بمنع انحصار فائدته في إفادة المعاني المركبة ، فإن صحة التجوز فائدة .

واستدل القائلون بعدم الاستلزام - وهم الجمهور - بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة ، لكان لنحو : " شابت لمة الليل " ، أي ابيض الغسق " ، و " قامت الحرب على ساق " أي اشتدت - حقيقة ، واللازم منتف .

وأجيب : عن هذا بجوابين ، جدلي ، وتحقيقي :

أما الجدلي : فبأن الإلزام مشترك ; لأن نفس الوضع لازم للمجاز ، فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى متحقق ، وليس كذلك .

وأما التحقيقي : فباختيار أنه لا مجاز في المركب بل في المفردات ، ولها وضع واستعمال ، ولا مجاز في التركيب حتى يلزم أن يكون له معنى .

ومن اتبع عبد القاهر في أن المجاز مفرد ومركب ، ويسمى عقليا ، وحقيقة عقلية ، لكونهما في الإسناد ، سواء كان طرفاه حقيقتين ، نحو : سرتني رؤيتك ، أو مجازين : نحو أحياني اكتحالي بطلعتك : أو مختلفين ، فإن اتبعه في عدم الاستلزام أيضا فذاك ، وإلا فله أن يجيب بأن مجازات الأطراف لا مدخل لها فيه ، ولها حقائق ، ومجاز الإسناد ليس لفظا ، حتى يطلب لعينه حقيقة ووضع ، بل معنى له حقيقة بغير هذا اللفظ ، واجتماع المجازات لا يستلزم اجتماع حقائقها .

ومن قال بإثبات المجاز المركب في الاستعارة التمثيلية ، نحو : طارت به العنقاء ، وأراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فلا بد أن يقال بعدم الاستلزام .

ومن نفى المجاز المركب أجاب عن المجاز العقلي بأنه من الاستعارة التبعية ; وذلك لأن عرف العرب أن يعتبروا القابل فاعلا ، نحو : مات فلان ، وطلعت الشمس ، ولم يلتزموا [ ص: 108 ] الإسناد إلى الفاعل الحقيقي ، كما في : أنبت الله ، وخلق الله ، فكذا سرتني رؤيتك ; لأنها قابلة لأحداث الفرح ونحوها من الصور الإسنادية .

وأشف ما استدلوا به - قولهم : إن الرحمن مجاز في الباري سبحانه ; لأن معناه ذو الرحمة ، ومعناه الحقيقي - وهو رقة القلب - لا وجود له ، ولم يستعمل في غيره تعالى .

وأجيب : بأن العرب قد استعملته في المعنى الحقيقي ، فقالوا لمسيلمة : هو رحمان اليمامة .

ورد : بأنهم لم يريدوا بهذا الإطلاق أن مسيلمة رقيق القلب ، حتى يرد النقض به .

ومما يستدل به للنافي أن أفعال المدح والذم هي أفعال ماضية ، ولا دلالة لها على الزمان الماضي ، فكانت مجازات لا حقائق لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية