إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وإذا عرفت هذا ، فالمجتهد : هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا ، قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها ، وإنما يتمكن من ذلك بشروط :

( الأول ) : أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة ، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا ، ولا يجوز له الاجتهاد ، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة ، بل بما يتعلق منهما بالأحكام .

قال الغزالي ، وابن العربي : والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ، [ ص: 717 ] ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر ; للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك ، بل من له فهم صحيح ، وتدبر كامل ، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال .

قيل : ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات ، لا بطريق التضمن والالتزام .

وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية .

قال الأستاذ أبو منصور : يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ، ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ .

واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة ، فقيل : خمسمائة حديث وهذا من أعجب ما يقال ، فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة .

وقال ابن العربي في المحصول : هي ثلاثة آلاف .

وقال أبو علي الضرير : قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي ، يكفيه مائة ألف ؟ قال : لا . قلت : ( مائتا ألف ؟ قال : لا قلت : ) ثلاثمائة ألف ؟ قال : لا . قلت : أربعمائة ألف ؟ قال : لا . قلت : [ ص: 718 ] خمسمائة ألف ؟ قال : أرجو .

قال بعض أصحابه : هذا محمول على الاحتياط ، والتغليظ في الفتيا ، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء ، فأما ما لا بد منه ، فقد قال أحمد رحمه الله : الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبغي أن تكون ألفا ومائتين .

قال أبو بكر الرازي : لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب ، إذ لا يمكن الإحاطة به ، ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى .

وقال الغزالي ، وجماعة من الأصوليين : يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام ، كسنن أبي داود ، ومعرفة السنن للبيهقي ، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام ، ويكتفى فيه بمواقع كل باب ، فيراجعه وقت الحاجة ، وتبعه على ذلك الرافعي ، ونازعه النووي وقال : لا يصح التمثيل بسنن أبي داود ، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ، ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود ، وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان : التمثيل بسنن أبي داود ليس بجيد عندنا لوجهين :

( الأول ) : أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها .

( الثاني ) : أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى .

ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط ، وبعضه من قبيل التفريط ، والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن ، كالأمهات الست وما يلتحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد ، والمستخرجات ، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له ، مستحضرة في ذهنه ، بل أن يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها ، بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك ، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها ، والحسن ، والضعيف ، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة ، [ ص: 719 ] وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال ، مع كونه ممن له معرفة تامة ، بما يوجب الجرح ، وما لا يوجبه من الأسباب ، وما هو مقبول منها ، وما هو مردود ، وما هو قادح من العلل ، وما هو غير قادح .

( الشرط الثاني ) : أن يكون عارفا بمسائل الإجماع ، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي ، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل .

( الشرط الثالث ) : أن يكون عالما بلسان العرب ، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ، ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك ، وقد قربوها أحسن تقريب ، وهذبوها أبلغ تهذيب ، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه ، ولا يبعد الاطلاع عليه ، وإنما يتمكن من معرفة معانيها ، وخواص تراكيبها ، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو ، والصرف ، والمعاني ، والبيان ، حتى ثبت له في كل فن من هذه الفنون ملكة ، يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه ، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا ، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا .

ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة ( مختصر من ) مختصراتها ، أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها ; فقد أبعد ، بل الاستكثار من الممارسة لها ، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث ، وبصرا في الاستخراج ، وبصيرة في حصول مطلوبه .

والحاصل : " أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم ، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة ، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن .

قال الإمام الشافعي : يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه .

قال الماوردي : ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره .

[ ص: 720 ] ( الشرط الرابع ) : أن يكون عالما بعلم أصول الفقه ، لاشتماله على ( ما تمس ) الحاجة إليه ، وعليه أن يطول الباع فيه ، ويطلع على مختصراته ، ومطولاته ، بما تبلغ إليه طاقته ، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد ، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه ، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها ، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها ، بأيسر عمل ، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد ، وخبط فيه وخلط .

قال الفخر الرازي في المحصول : وما أحسن ما قال : إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى . قال الغزالي : إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون : الحديث ، واللغة ، وأصول الفقه .

( الشرط الخامس ) : أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك ، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ .

وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي ، فشرطه جماعة منهم الغزالي ، والفخر الرازي ، ولم يشترط الآخرون ، وهو الحق ; لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية ، لا على الأدلة العقلية ، ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد .

واختلفوا أيضا في اشتراط علم أصول الدين ، فمنهم من اشترط ذلك ، وإليه ذهب المعتزلة ، ومنهم من لم يشترط ذلك ، وإليه ذهب الجمهور .

ومنهم من فصل ، فقال : يشترط العلم بالضروريات ، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق ( بالرسول وما جاء به ) .

ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي .

واختلفوا أيضا في اشتراط علم الفروع ، فذهب جماعة منهم الأستاذ أبو إسحاق ، والأستاذ أبو منصور إلى اشتراطه ، واختاره الغزالي وقال : إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان .

[ ص: 721 ] وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه ، قالوا : وإلا لزم الدور ، وكيف يحتاج إليها ، وهو الذي يولدها ، بعد حيازته لمنصب الاجتهاد .

وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة ، فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا .

وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه ، قالوا : لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ، ومنه يتشعب الفقه ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت علم " أصول الفقه " فإنه باب من أبوابه ، وشعبة من شعبه .

[ المجتهد فيه ]

وإذا عرفت معنى الاجتهاد ، والمجتهد ، فاعلم أن المجتهد فيه : هو الحكم الشرعي العلمي .

قال في المحصول : المجتهد فيه : هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع ، واحترزنا [ ص: 722 ] بالشرعي عن العقليات ، ومسائل الكلام .

وبقولنا : ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس ، والزكاة ، وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع .

قال أبو الحسين البصري : المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون ، من الأحكام الشرعية ، وهذا ضعيف ; لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية ، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور .

التالي السابق


الخدمات العلمية