[ ص: 729 ] اختلفوا في جواز  
الاجتهاد للأنبياء ،  صلوات الله عليهم ، بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلا تعبدهم بالاجتهاد ، كغيرهم من المجتهدين ، حكى هذا الإجماع  
 nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك ،  والأستاذ  
أبو منصور ،  وأجمعوا أيضا على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا ، وتدبير الحروب ، ونحوها ، حكى هذا الإجماع  
 nindex.php?page=showalam&ids=16026سليم الرازي   nindex.php?page=showalam&ids=13064وابن حزم     .  
وذلك كما قلت وقع من نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - من إرادته بأن يصالح  
 " غطفان      " على ثلث ثمار  
المدينة   وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار  
المدينة      .  
فأما اجتهادهم في  
الأحكام الشرعية ، والأمور الدينية ،  فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب :  
( الأول ) : ليس لهم ذلك ، لقدرتهم على النص بنزول الوحي ، وقد قال سبحانه :  
إن هو إلا وحي يوحى  والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله :  
وما ينطق عن الهوى  قد حكى هذا المذهب  
الأستاذ أبو منصور  عن أصحاب الرأي .  
وقال القاضي في التقريب : كل من نفى القياس أحال تعبد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - به .  
قال  
الزركشي :  وهو ظاهر اختيار  
 nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم     .   
[ ص: 730 ] واحتجوا أيضا بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا سئل ينتظر الوحي ، ويقول : ما أنزل علي في هذا شيء ، كما قال لما سئل عن زكاة الحمير ؟ فقال : لم ينزل علي ( في ذلك ) إلا هذه الآية الجامعة  
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره  وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه .  
ومن الذاهبين إلى هذا المذهب ،  
أبو علي ،  وأبو هاشم     .  
( المذهب الثاني ) : أنه يجوز لنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم ، ولغيره من الأنبياء ، وإليه ذهب الجمهور .  
واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - كما خاطب عباده ، وضرب له الأمثال ، وأمره بالتدبر والاعتبار ، وهو أجل المتفكرين في آيات الله ، وأعظم المعتبرين بها .  
وأما قوله :  
وما ينطق عن الهوى  إن هو إلا وحي يوحى  فالمراد به القرآن ; لأنهم قالوا  
إنما يعلمه بشر  ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده ; لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا كان متعبدا بالاجتهاد بالوحي ; لم يكن نطقا عن الهوى ، بل عن الوحي ، وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع ، مع كونه معرضا للخطأ ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى .  
وأيضا قد وقع ذلك كثيرا منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن غيره من الأنبياء ، فأما منه فمثل قوله :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338121أرأيت لو تمضمضت  ،  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338172أرأيت لو كان على أبيك دين     .   
[ ص: 731 ] وقوله  
للعباس  nindex.php?page=hadith&LINKID=10338101إلا الإذخر  ولم ينتظر الوحي في هذا ، ولا في كثير مما سئل عنه ، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم - :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337998ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه     .  
وأما من غيره فمثل قصة  
داود   وسليمان      .  
وأما ما احتج به المانعون ، من أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لو جاز له الاجتهاد ; لجازت مخالفته ، واللازم باطل .  
وبيان الملازمة : أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد ، ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة ، إذ لا قطع بأنه حكم الله ; لكونه محتملا للإصابة ، ومحتملا للخطأ ، فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاده يكون له حكم اجتهاد غيره ، فإن ذلك إنما كان لازما لاجتهاد غيره ، لعدم اقترانه بما اقترن به اجتهاده - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأمر باتباعه .  
وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما تأخر في جواب سؤال سائل ،      
[ ص: 732 ] فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن ; لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده ، على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب ، والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة ، كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين .  
( المذهب الثالث ) : الوقف عن القطع بشيء من ذلك ، وزعم  
الصيرفي  في شرح الرسالة أنه مذهب  
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ;  لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئا منها .  
واختار هذا  
 nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر الباقلاني   nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي     .  
ولا وجه للوقف في المسألة ; لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع ، على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله - عز وجل - :  
عفا الله عنك لم أذنت لهم  فعاتبه على ما وقع منه ، ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه .  
ومن ذلك ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338173لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي  أي لو علمت أولا ما علمت آخرا ما فعلت ذلك ، ومثل ذلك لا يكون فيما عمله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالوحي ، وأمثال ذلك كثيرة ، كمعاتبته - صلى الله عليه وآله وسلم - على أخذ الفداء من أسرى  
بدر   بقوله تعالى :  
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض  وكما في معاتبته - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله تعالى :  
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك  إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز .   
[ ص: 733 ] والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل ، وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ، ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع ، أو التوقف لأجلها .