إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
فذهب الأكثر إلى جوازه ووقوعه ، واختاره جماعة من المحققين ، منهم القاضي . ومنهم من منع ذلك ، كما روي عن أبي علي ، وأبي هاشم .

ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر ، فأجازه لمن غاب عن حضرته - صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وقع في حديث معاذ ، دون من كان بحضرته الشريفة - صلى الله عليه وآله وسلم ، واختاره الغزالي ، وابن الصباغ ، ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء ، والمتكلمين ، ومال إليه إمام الحرمين .

قال القاضي عبد الوهاب : إنه الأقوى على أصول أصحابهم .

قال ابن فورك : بشرط تقريره عليه .

وقال ابن حزم : إن كان اجتهاد الصحابي في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأحكام ، كإيجاب شيء ، أو تحريمه ، فلا يجوز ، كما وقع من أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل ، المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر ، فأخطأ [ ص: 734 ] في ذلك ، وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز ، كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة ; لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة تلزم .

وكاجتهاد قوم بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأخطئوا في ذلك ، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من هم ، ولم يعنفهم في اجتهادهم .

ومنهم من قال : وقع ظنا لا قطعا ، واختاره الآمدي ، وابن الحاجب .

ومنهم من قال : إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجتهد ، إذا أمره بذلك ، كما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة ، وإن لم يأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يجز له الاجتهاد ، إلا أن يجتهد ويعلم به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيقرره عليه ، [ ص: 735 ] كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل ، فإنه قال : " لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، فيعطيك سلبه " فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ( وكذلك امتناع علي - رضي الله عنه - من محو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحيفة ) .

والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - ( فلا يجوز له الاجتهاد ; لتعين السؤال منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) فيما نابه من الأمر ، وبين من كان غائبا عنها ، فيجوز له الاجتهاد .

وقد وقع من ذلك واقعات متعددة ، كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه ، وكان جنبا ولم يغتسل ، بل تيمم وقال : سمعت الله تعالى يقول : ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك .

[ ص: 736 ] وكما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فتخوف ناس من فوت الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن فات الوقت ، فما عنف أحدا من الفريقين .

ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل : تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه إلى اليمن ، وهو حديث مشهور ، له طرق متعددة ، ينتهض مجموعها للحجية ، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل .

ومنه بعثه - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي قاضيا ، فقال : لا علم لي بالقضاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اللهم اهد قلبه وثبت لسانه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك .

ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند : أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر ، فأتوا عليا يختصمون في الولد فأقرع بينهم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثير .

قال الفخر الرازي في المحصول : الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه .

وقد اعترض عليه ذلك ، ولا وجه للاعتراض ; لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حجة وشرعا بالتقدير ، لا باجتهاد الصحابي ، وإن لم يبلغه كان اجتهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي ، [ ص: 737 ] عند من قال بجوازه في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - ( لا عند من منع منه ، وإن بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وأنكره ، أو قال بخلافه ، فليس في ذلك الاجتهاد فائدة ; لأنه قد بطل بالشرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية