إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 740 ] اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب ، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين .

وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين :

( الفرع الأول )

العقليات

وهي على أنواع :

( الأول ) : ما يكون الغلط فيه مانعا من معرفة الله ورسوله ، كما في إثبات العلم بالصانع ، والتوحيد ، والعدل .

قالوا : فهذه الحق فيها واحد ، فمن أصابه أصاب الحق ، ومن أخطأه فهو كافر .

( النوع الثاني ) : مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار ، وما يشابه ذلك ، فالحق فيها واحد ، فمن أصابه فقد أصاب ، ومن أخطأه فقيل : يكفر .

ومن القائلين بذلك الشافعي ، فمن أصحابه من حمله على ظاهره ، ومنهم من حمله على كفران النعم .

[ ص: 741 ] ( النوع الثالث ) : إذا لم تكن المسألة دينية ، كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف ، قالوا : فليس المخطئ فيها بآثم ، ولا المصيب فيها بمأجور ، إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون مكة أكبر من المدينة أو أصغر منها .

وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ، ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب ، وحكى أيضا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد ، بخلاف المعاند .

قال الزركشي : وأما الجاحظ فجعل الحق فيها واحدا ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم .

قال ابن السمعاني : وكان العنبري يقول في مثبتي القدر : هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر : هؤلاء نزهوا الله ، وقد استبشع هذا القول منه ، فإنه يقتضي تصويب اليهود ، والنصارى ، وسائر الكفار في اجتهادهم ، قال : ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة ، كالرؤية ، وخلق الأفعال ، ونحوه .

وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل ، كاليهود ، والنصارى ، والمجوس ; فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام .

قال القاضي في مختصر التقريب : اختلفت الروايات عن العنبري ، فقال في أشهر الروايتين : إنما أصوب كل مجتهد في الدين تجمعهم الملة وأما الكفرة فلا يصوبون ، وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة قال : ونحن نتكلم معهما ، يعني العنبري ، والجاحظ ، فنقول :

أنتما أولا محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما .

ثانيا : إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد ; فقد خرجتما عن حيز العقلاء ، [ ص: 742 ] وانخرطتما في سلك الأنعام ، وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ، ونفي الحرج ، كما نقل عن الجاحظ ; فالبراهين العقلية من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة .

وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول : مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن ، وغير ذلك مما يعظم خطره ، وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه .

وقد حكى القاضي أيضا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني ، إمام مذهب الظاهر ، أنه قال بمثل قول العنبري .

وحكى قوم عن العنبري والجاحظ ، أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق ، من أهل ملتنا وغيرهم ، وقد نحا الغزالي قريبا من هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة .

وقال ابن دقيق العيد : ما نقل عن العنبري ، والجاحظ ، إن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر ; فباطل ، وإن أريد به أن من بذل الوسع ، ولم يقصر في الأصوليات ، يكون معذورا غير معاقب ، فهذا أقرب ; لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب ، وكلف بعد استفراغه غاية الجهد ; لزم تكليفه بما لا يطاق .

قال : وأما الذي حكي عنه من الإصابة في العقائد القطعية ; فباطل قطعا ، ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى .

وأما المخطئ في الأصول : كالمجسمة فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله .

واختلف في تكفيره ، وللأشعري قولان ; قال إمام الحرمين ، وابن القشيري ، وغيرهما : وأظهر مذهبه ترك التكفير ، وهو اختيار القاضي في كتاب إكفار المتأولين .

وقال ابن عبد السلام : رجع ( الإمام أبو الحسن ) الأشعري عند موته عن تكفير [ ص: 743 ] أهل القبلة ; لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات .

قال الزركشي : وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر ، فقيل له : ألا تكفر من يكفرك ، فعاد إلى القول بالتكفير ، وهذا مذهب المعتزلة ، فهم يكفرون خصومهم ، ويكفر كل فريق منهم الآخر .

وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير ، وقالوا : إنما يكفر من جهل وجود الرب ، أو علم وجوده ، ولكن فعل فعلا ، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى .

واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كئود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ، ولا يحرص عليه ; لأنه مبني على شفا جرف هار ، وعلى ظلمات بعضها فوق بعض ، وغالب القول به ناشئ عن العصبية ، وبعضه ناشئ عن شبه واهية ، ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين ، فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة الأقدام ، ومدحضة كثير من علماء الإسلام .

والحاصل : أن الكتاب والسنة ، ومذهب خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، يدفع ذلك دفعا لا شك فيه ، ولا شبهة ، فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم : إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب ، والسنة ، فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة ، وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية