إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
قال الرازي في المحصول : اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو للعالم : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ؟

فقطع بوقوعه موسى بن عمران ( من المعتزلة ) وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه . وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه ، وهو المختار انتهى .

[ ص: 752 ] ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، أو المجتهد ، أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد ، وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض ، وكيف اتفق له .

واستدل من قال بالجواز : بأنه ليس بممتنع لذاته ، والأصل عدم امتناعه لغيره .

وهذا الدليل ساقط جدا ، وتفويض من كان ذا علم ، بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد ، مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها ، وتتباين طرائقها ، ولا علم للعبد بما عند الله - عز وجل - فيها ، ولا بما هو الحق الذي يريده من عباده ، ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه ، ولا يتردد في بطلانه ، فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد المتمكن من النظر والاستدلال ، إذا بحث وفحص وأعطى النظر حقه ، فليس معه إلا مجرد الظن بأن ذلك الذي رجحه وقاله هو الحق الذي طلبه الله - عز وجل - فكيف يحل له أن يقول ما أراد ويفعل ما اختار من دون نظر واجتهاد ، وكيف يجوز مثل ذلك على الله - عز وجل - مع القطع بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية ; لأنه واحد من أهلها مأخوذ بما أخذوا به مطلوب منه ما طلب منهم ، فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره ، وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب ، بما كلف به ، وهل هذه المقالة إلا مجرد جهل بحت ومجازفة ظاهرة ، وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد ، مع جهله بما في أحكام الله من المصالح ، فإن من كان هكذا قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة ، وعلى ما لا مصلحة فيه .

وأما الاستدلال بقوله سبحانه : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فهو خارج عن محل النزاع ; لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله ، وهم معصومون من الخطأ ، وإذا وقع منهم نادرا فلا يقرون عليه ، وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله - عز وجل ، أو باجتهاد يقرره الله - عز وجل - ويرضاه ، وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ووقوع الجوابات منه على من سأله من دون انتظار الوحي ، وبمثل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لو استقبلت من أمري ما استدبرت وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة [ ص: 753 ] بنت الحرث : " لو بلغني هذا لمننت عليه " أي على أخيها النضر بن الحرث أحد أسرى بدر ، والقصة والشعر معروفان .

وأما اعتذار من اعتذر عن القائل بصحة ذلك ، بأنه إنما قال بالجواز ، ولم يقل بالوقوع ، فليس هذا الاعتذار بشيء فإن تجويز مثل هذا على الله - عز وجل - مما لا يحل لمسلم أن يقول به .

وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء ، وإلى المجتهدين بالنظر والاجتهاد ، فليس محل النزاع إلا التفويض لمن كان من أهل العلم ، أن يحكم بما شاء ، وكيف اتفق ، وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاءوا به ( في هذه المسألة من الأدلة واقع في غير موقعه ، وأنه لا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف ، ولم يأتوا بشيء تقبله العقول ، ولا بدليل يدل عليه الشرع ، بل جميع ما جاءوا به ) جهل على جهل ، وظلمات بعضها فوق بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية