إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 754 ] [ ص: 755 ] وفيه ست مسائل

المسألة الأولى

في حد التقليد ، والمفتي ، والمستفتي

أما التقليد : فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة ، التي يقلد غيره بها ، ومنه تقليد الهدي ، فكأن المقلد جعل ذلك الحكم ، الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده .

وفي الاصطلاح : هو العمل بقول الغير من غير حجة .

فيخرج العمل بقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والعمل بالإجماع ، ورجوع العامي إلى المفتي ، ورجوع القاضي إلى شهادة العدول ، فإنها قد قامت الحجة في ذلك .

أما العمل بقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وبالإجماع ، فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة ، وفي مقصد الإجماع .

وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود : فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة ، من الأمر بالشهادة والعمل بها وقد وقع الإجماع على ذلك .

وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك .

ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة ، فإنه قد دل الدليل على قبولها ، ووجوب العمل بها .

وأيضا : ليست قول الراوي ، بل قول من روى عنه ، إن كان ممن تقوم به الحجة .

[ ص: 756 ] وقال ابن الهمام في التحرير ، التقليد : العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة . وهذا الحد أحسن من الذي قبله .

وقال القفال : هو قبول قول القائل ، وأنت لا تعلم من أين قاله .

وقال الشيخ أبو حامد ، والأستاذ أبو منصور : هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله .

وقيل : هو قبول الغير دون حجته ، أي حجة القول .

والأولى أن يقال : هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة .

وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم .

وأما المفتي فهو المجتهد ، وقد تقدم بيانه ، ومثله قول من قال : إن المفتي للفقيه ; لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول .

والمستفتي من ليس بمجتهد ، أو من ليس بفقيه ، وقد عرفت من حد المقلد ، على جميع الحدود المذكورة ، أن قبول قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، والعمل به ليس من التقليد في شيء ; لأن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وفعله نفس الحجة .

قال القاضي حسين في التعليق : لا خلاف أن قبول قول غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصحابة ، والتابعين ، يسمى تقليدا ، وأما قبول قوله - صلى الله عليه وآله وسلم ، فهل يسمى تقليدا ؟ فيه وجهان يبنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ما هو ؟

وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا ، فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ، ما نصه : وأما أن يقلده ، فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى .

ولا يخفاك أن مراده بالتقليد هاهنا غير ما وقع عليه الاصطلاح ; ولهذا قال الروياني في البحر : أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تقليدا ، ولم يرد حقيقة التقليد ، وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه ، وفي وقوع اسم [ ص: 757 ] التقليد عليه وجهان .

قال : والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم .

قال الزركشي في البحر : وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ ، وبه صر‌ح إمام الحرمين في " التلخيص " حيث قال : وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق انتهى .

وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح عليه لا يشمل ذلك ، وهو المطلوب .

قال ابن الدقيق العيد : إن قلنا إن الأنبياء لا يجتهدون ، فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي ، فلا يكون تقليدا ، وإن قلنا إنهم يجتهدون ، فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد ، وعلى كل تقدير ، فقد علمنا السبب ، واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة انتهى .

وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الآخذ بقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والراجع إليه ليس بمقلد ، بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية