إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده ، أو بمذهب إمام آخر ؟

فقيل : لا يجوز ، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم ، منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهما ، قال الصيرفي ، وموضوع هذا الاسم - يعني المفتي - لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم حمل عموم القرآن وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه ، وكذلك السنن والاستنباط ، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها ، فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ، ومن استحقه أفتى فيما استفتي .

قال ابن السمعاني : المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط : الاجتهاد ، والعدالة ، والكف عن الترخيص والتساهل ، قال : ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتي .

قال الرازي في المحصول : اختلفوا في غير المجتهد ، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه [ ص: 766 ] عن المفتين ؟ فنقول : لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو حي ، فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله ؛ لأنه لا قول للميت ، ( بدليل أن ) الإجماع لا ينعقد على خلافه حيا ، وينعقد على موته ، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته .

( فإن قلت ) : لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها ؟

( قلت ) : لفائدتين :

( إحداهما ) : استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث ، وكيف بني بعضها على بعض .

( والثانية ) : معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ، فلا يفتى بغير المتفق عليه . انتهى .

وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات ، وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات .

قال الروياني في البحر : إنه القياس ، وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد ، كمن تجدد فسقه بعد عدالته ، فإنه لا يبقى حكم عدالته ، وإما لأن قوله وصف له ، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال ، وإما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد ، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول ، فتقليده بناء على وهم أو تردد ، والقول بذلك غير جائز .

وبهذا تعرف أن قول من قال بجواز فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ، ليس على إطلاقه .

وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين ، بشرط أن يكون ذلك المفتي أهلا للنظر ، مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به ، وإلا فلا يجوز .

[ ص: 767 ] وحكاه القاضي عن القفال ، ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين ، وليس كذلك ، ولعله يعني الأكثرين من المقلدين ، وبعضهم نسبه إلى الرازي ، وهو غلط عليه ، فإن اختياره المنع .

واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى .

قال الهندي : وهذا فيه نظر ؛ لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون ، والمجمعون ليسوا بمجتهدين ، فلا يعتبر إجماعهم بحال .

قال ابن دقيق العيد : توقيف الفتيا على حصول المجتهد ، يفضي إلى حرج عظيم ، أو استرسال الخلق في أهويتهم ، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين ، إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ، ثم حكى للمقلد قوله ، فإنه يكتفي به ؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي ، أنه حكم الله عنده ، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا ، هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك فعل علي - رضي الله عنه - حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي ، وفي مسألتنا أظهر ، فإن مراجعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ ذاك ممكنة ، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة ، مع شرائط الاجتهاد اليوم . انتهى .

( قلت ) : وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن ، أما قوله : يفضي إلى حرج عظيم إلخ فغير مسلم ، فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه ، أو على لسان رسوله ، كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته .

[ ص: 768 ] وأما استدلاله على الجواز بقوله : " لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي " إلخ ، فمن أغرب ما يسمعه السامع ، لا سيما عن مثل هذا الإمام ، وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية ، وأي تأثير لظنون العامة ، الذين لا يعرفون الشريعة ، ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .

وأما قوله " مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة " إلخ ، فنقول : نعم ، ذلك أمر ضروري ، فكان ماذا ، فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة ، بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم ، فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل ، وإن لم يعلمه أحال السائل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، أو على من يعلمه من أصحابه ، وكذا فيمن بعدهم ، ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة ، وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا ، فيسأل علماء عصره ، كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم ، وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ، ولا عما يقولون بمحض الرأي .

( فإن قلت ) : ليس مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل .

( قلت ) : إذا كان مراده هذا ، فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين ، وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة ، ويكون المسئول ممن لا يجهله ، فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية ، أو نبوية ، ويدع السؤال عن مذاهب الناس ، ويستغني بمذهب إمامهم الأول ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم .

وأما إرسال علي للمقداد ، فهو إنما أرسله ؛ ليروي له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ ، وأين هذا مما نحن بصدده .

وأما قوله : وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة ، مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع ، وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به ، وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة ، وإذا لم يدر به فهو حاكم بالجهل ، ( والحكم بالجهل ) ليس بحجة على أحد .

[ ص: 769 ] وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا .

وقال آخرون : إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله ، أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ، ولا يجوز له تقليد الميت .

قال الروياني والماوردي : إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها ، فهل له أن يفتي ؟ فيه أوجه :

( ثالثها ) : إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز ، وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز .

قالا : والأصح أنه لا يجوز مطلقا ؛ لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها .

وقال الجويني في شرح الرسالة : من حفظ نصوص الشافعي ، وأقوال الناس بأسرها ، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها ؛ لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ، ولو أفتى فإنه لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية