إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
اختلف المجوزون للتقليد ، هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة ؟ فقال جماعة منهم يلزمه : ورجحه إلكيا .

وقال آخرون : لا يلزمه ، ورجحه ابن برهان والنووي .

واستدلوا بأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل ، وبعضهم في البعض الآخر .

وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل ، فإنه قال لبعض أصحابه : لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا ، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس .

وسئل عن مسألة من الطلاق فقال : يقع يقع ، فقال له السائل : فإن أفتاني أحد أنه لا يقع [ ص: 772 ] يجوز ؟ قال : نعم . وقال : وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب .

وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة ، لا قبلهم . انتهى .

وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون ، وأغرب ما يعتبر به المنصفون .

أما إذا التزم العامي مذهبا معينا فلهم في ذلك خلاف آخر ، وهو أنه هل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ، ويأخذ بقول غيره ، فقيل : لا يجوز .

وقيل : يجوز .

وقيل : إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال ، وإلا جاز .

وقيل : إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال ، وإلا جاز ، واختار هذا إمام الحرمين .

وقيل : إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له ، وإلا لم يجز ، وبه قال القدوري الحنفي ، وقيل : إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال ، وإلا جاز ، واختاره ابن عبد السلام ، وقيل : يجوز بشرط أن ينشرح له صدره ، وأن لا يكون قاصدا للتلاعب ، وأن لا يكون ناقضا لما قد حكم عليه به ، واختاره ابن دقيق العيد .

وقد ادعى الآمدي ، وابن الحاجب : أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق .

واعترض عليهما : بأن الخلاف جاز فيما ادعيا الاتفاق عليه .

أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه ، والأخف له ، فقال أبو إسحاق المروزي : يفسق .

وقال ابن أبي هريرة : لا يفسق .

[ ص: 773 ] قال الإمام أحمد بن حنبل : لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة ، كان فاسقا . وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد ، إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة ، واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد ؛ لإخلاله بفرضه وهو التقليد فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده .

وقال ابن عبد السلام : إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله ، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم ، وإلا لم يأثم .

وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام " وروى عنه أنه قال : يترك من قول أهل مكة المتعة ، والصرف ، ومن قول أهل المدينة السماع ، وإتيان النساء في أدبارهن ، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ، ومن قول أهل الكوفة النبيذ " .

وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابا نظرت فيه ، وقد جمع فيه الرخص ، من زلل العلماء وما احتج به كل منهم . فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ ( فقلت : الأحاديث ) على ما رويت ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية