إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 786 ] واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد ، وقد يكون باعتبار المتن ، وقد يكون باعتبار المدلول ، وقد يكون باعتبار أمر خارج ، فهذه أربعة أنواع .

والنوع الخامس : الترجيح بين الأقيسة .

والنوع السادس : الترجيح بين الحدود السمعية .

( النوع الأول ) : الترجيح باعتبار الإسناد وله صور :

( الصورة الأولى ) : الترجيح بكثرة الرواة ، فيرجع ما رواته أكثر على رواته أقل ؛ لقوة الظن به ، وإليه ذهب الجمهور .

وذهب الشافعي في القديم إلى أنهما سواء ، وشبهه بالشهادات ، وبه قال الكرخي .

قال إمام الحرمين : إن لم يمكن الرجوع إلى دليل آخر قطع باتباع الأكثر ، فإنه أولى من الإلغاء ؛ لأنا نعلم أن الصحابة لو تعارض لهم خبران هذه صفتهما لم يعطلوا الواقعة ، بل كانوا يقدمون هذا .

قال : وأما إذا كان في المسألة قياس ، وخبران متعارضان ، كثرت رواة أحدهما ، فالمسألة ظنية ، والاعتماد على ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر .

وفي المسألة قول رابع صار إليه القاضي ، والغزالي ، وهو أن الاعتماد على ما غلب ظن المجتهد ، فرب عدل أقوى في النفس من عدلين ؛ لشدة يقظته وضبطه انتهى .

وهذا صحيح ، لكن المفروض في الترجيح بالكثرة ، وهو كون الأكثر من الرواة مثل الأقل في وصف العدالة ونحوها .

قال ابن دقيق العيد : وهو مرجح من أقوى المرجحات ، فإن الظن يتأكد عند ترادف الروايات ؛ ولهذا يقوى الظن إلى أن يصير العلم به متواترا . انتهى .

أما لو تعارضت الكثرة من جانب ، والعدالة من الجانب الآخر ، ففيه قولان :

( أحدهما ) : ترجيح الكثرة .

[ ص: 787 ] ( وثانيهما ) ترجيح العدالة ، فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة ، كما قيل : إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائتين وقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره .

( النوع الثاني ) : أنه يرجح ما كانت الوسائط فيه قليلة ، وذلك بأن يكون إسناده عاليا ؛ لأن الخطأ والغلط فيما كانت وسائطه أقل ، دون ما كانت وسائطه أكثر .

( النوع الثالث ) : أنها ترجح رواية الكبير على رواية الصغير ؛ لأنه أقرب إلى الضبط ، إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط ، أو أكثر ضبطا منه .

( النوع الرابع ) : أنها ترجح رواية من كان فقيها على من لم يكن كذلك ؛ لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ .

( النوع الخامس ) : أنها ترجح رواية من كان عالما باللغة العربية ؛ لأنه أعرف بالمعنى ممن لم يكن كذلك .

( النوع السادس ) : أن يكون أحدهما أوثق من الآخر .

( النوع السابع ) : أن يكون أحدهما أحفظ من الآخر .

( النوع الثامن ) : أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر .

( النوع التاسع ) : أن يكون أحدهما متبعا والآخر مبتدعا .

( النوع العاشر ) : أن يكون أحدهما صاحب الواقعة ؛ لأنه أعرف بالقصة .

( النوع الحادي عشر ) : أن يكون أحدهما مباشرا لما رواه دون الآخر .

( النوع الثاني عشر ) : أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دون الآخر ؛ لأن المخالطة تقتضي زيادة في الاطلاع .

( النوع الثالث عشر ) : أن يكون أحدهما أكثر ملازمة للمحدثين من الآخر .

( النوع الرابع عشر ) : أن يكون أحدهما قد طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دون الآخر .

( النوع الخامس عشر ) : أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية ، والآخر بمجرد الظاهر .

[ ص: 788 ] ( النوع السادس عشر ) أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالممارسة والاختبار ، والآخر بمجرد التزكية ، فإنه ليس الخبر كالمعاينة .

( النوع السابع عشر ) : أن يكون أحدهما قد وقع الحكم بعدالته دون الآخر .

( النوع الثامن عشر ) : أن يكون أحدهما قد عدل مع ذكر أسباب التعديل ، والآخر عدل بدونها .

( النوع التاسع عشر ) : أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر .

( النوع العشرون ) : أن يكون المزكون لأحدهما أكثر بحثا عن أحوال الناس من المزكين للآخر .

( النوع الحادي والعشرون ) : أن يكون المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر ؛ لأن مزيد العلم له مدخل في الإصابة .

( النوع الثاني والعشرون ) : أن يكون أحدهما قد حفظ اللفظ ، فهو أرجح ممن روى المعنى ، أو اعتمد على الكتابة ، وقيل : إن رواية من اعتمد على الكتابة أرجح من رواية من اعتمد على الحفظ .

( النوع الثالث والعشرون ) : أن يكون أحدهما أسرع حفظا من الآخر ، وأبطأ نسيانا منه ، فإنه أرجح ، أما لو كان أحدهما أسرع حفظا ، وأسرع نسيانا ، والآخر أبطأ حفظا ، وأبطأ نسيانا ، فالظاهر أن الآخر أرجح من الأول ؛ لأنه يوثق بما حفظه ورواه وثوقا زائدا على ما رواه الأول .

( النوع الرابع والعشرون ) : أنها ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من يتفرد عنهم في كثير من رواياته .

( النوع الخامس والعشرون ) : أنها ترجح رواية من دام حفظه وعقله ، ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ، ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه .

( النوع السادس والعشرون ) : أنها ترجح رواية من كان أشهر بالعدالة والثقة من الآخر ؛ لأن ذلك يمنعه من الكذب .

( النوع السابع والعشرون ) : أنها ترجح رواية من كان مشهور النسب على من لم [ ص: 789 ] يكن مشهورا ؛ لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر .

( النوع الثامن والعشرون ) : أن يكون أحدهما معروف الاسم ، ولم يلتبس اسمه باسم أحد من الضعفاء على من يلتبس اسمه باسم ضعيف .

( النوع التاسع والعشرون ) : أنها ترجح رواية من ( تحمل بعد البلوغ على رواية من تحمل قبل البلوغ .

( النوع الثلاثون ) : أنها ترجح رواية من ) تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه ؛ لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخا ، هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن برهان ، والبيضاوي ، وقال الآمدي بعكس ذلك .

( النوع الحادي والثلاثون ) : أنها ترجح رواية الذكر على الأنثى ؛ لأن الذكور أقوى فهما ، وأثبت حفظا ، وقيل : لا تقدم .

( النوع الثاني والثلاثون ) : أنها تقدم رواية الحر على العبد ؛ لأن تحرزه عن الكذب أكثر وقيل : لا تقدم .

( النوع الثالث والثلاثون ) : أنها تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه .

( النوع الرابع والثلاثون ) : أنها تقدم رواية من لم يختلف الرواة عليه على من اختلفوا عليه .

( النوع الخامس والثلاثون ) : أن يكون أحدهما أحسن استيفاء للحديث من الآخر ، فإنها ترجح روايته .

( النوع السادس والثلاثون ) : أنها تقدم رواية من سمع شفاها على من سمع من وراء حجاب .

( النوع السابع والثلاثون ) : أن يكون أحد الخبرين بلفظ " حدثنا " أو أخبرنا فإنه أرجح من لفظ " أنبأنا " ونحوه ، قيل : ويرجح لفظ " حدثنا " على لفظ " أخبرنا " .

( النوع الثامن والثلاثون ) : أنها تقدم رواية من سمع من لفظ الشيخ على رواية من [ ص: 790 ] سمع بالقراءة عليه .

( النوع التاسع والثلاثون ) : أنها تقدم رواية من روى بالسماع على رواية من روى بالإجازة .

( النوع الأربعون ) : أنها تقدم رواية من روى المسند على رواية من روى المرسل .

( النوع الحادي والأربعون ) : أنها تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما .

( النوع الثاني والأربعون ) : أنها تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه .

( واعلم ) : أن وجوه الترجيح كثيرة ، وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح ، فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات ، فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية