إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
البحث الخامس : في تعارض الأفعال

اعلم أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال ، بحيث يكون البعض منها ناسخا لبعض أو مخصصا له ، لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا ، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه ; لأن الفعل لا عموم له ، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة ، ولا يدل على التكرار . هكذا قال جمهور أهل الأصول ، على اختلاف طبقاتهم ، وحكى ابن العربي في [ ص: 148 ] كتاب المحصول ثلاثة أقوال :

الأول : التخيير .

الثاني : تقديم المتأخر ، كالأقوال إذا تأخر بعضها .

الثالث : حصول التعارض ، وطلب الترجيح من خارج . قال : كما اتفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة . قال مالك والشافعي : إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة . وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم . انتهى .

وحكي عن ابن رشد أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال ، وقال القرطبي يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب ، فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ ، وإن جهل فالترجيح ، وإلا فهما متعارضان كالقولين .

وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض ، وقال الغزالي في المنخول : إذا نقل فعل وحمل على الوجوب ، ثم نقل فعل يناقضه ، فقال القاضي : لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى لمدة الفعل الأول . قال : وذهب ابن مجاهد إلى أنه نسخ ، وتردد في القول الطارئ على الفعل ، وجزم إلكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ، ثم [ ص: 149 ] استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل ، بأنه يكون ما بعده ناسخا له ، قال : وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده .

والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال ، فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها ، والحكم عليها ، بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة ، وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال ، أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ، ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من الأقوال ، لا إلى بيانها من الأفعال وذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول .

قال الجويني وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما ، واعتقاد كونه ناسخا للأول ، قال : وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا ، ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف .

وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بيانا كما ذكرنا ، فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بيانا ، وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ عن ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية