إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 157 ] البحث الحادي عشر : في الأخبار .

وفيه أنواع :

النوع الأول : في معنى الخبر لغة واصطلاحا :

أما معناه لغة : فهو مشتق من الخبار ، وهي الأرض الرخوة ; لأن الخبر يثير الفائدة ، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار ، إذا قرعها الحافر ونحوه ، وهو نوع مخصوص من القول ، وقسم من الكلام اللساني ، وقد يستعمل في غير القول ، كقول الشاعر :


تخبرك العينان ما القلب كاتم

وقول المعري :


نبي من الغربان ليس على شرع     يخبرنا أن الشعوب إلى صدع

ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي ; لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول .

وأما معناه اصطلاحا : فقال الرازي في المحصول : ذكروا في حده أمورا ثلاثة .

الأول : أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب .

والثاني : أنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب .

والثالث : ما ذكره أبو الحسين البصري أنه كلام مفيد بنفسه إضافة أمر من [ ص: 158 ] الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا ، قال : واحترزنا بقولنا : بنفسه عن الأمر ، فإنه يفيد وجوب الفعل ، لكن لا بنفسه ; لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل ، والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ، ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ، وكذلك القول في دلالة النهي على قبح الفعل .

قال الرازي : واعلم أن هذه التعريفات دورية ، أما الأول ، فلأن الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر ، والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها ، فإذا لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر ، فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور .

وأجيب عن هذا : بمنع كونهما لا يعرفان إلا بالخبر ، بل هما ضروريان .

ثم قال : واعترضوا عليه أيضا في ثلاثة أوجه :

الأول : أن كلمة أو للترديد ، وهو ينافي التعريف ، ولا يمكن إسقاطها هاهنا ; لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا .

والثاني : أن كلام الله تعالى لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف .

والثالث : من قال : محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومسيلمة صادقان ، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب .

ويمكن أن يجاب عن الأول : بأن المعروف لماهية الخبر أمر واحد ، وهو إمكان تطرق هذين الوصفين إليه ، وذلك لا ترديد فيه .

وعن الثاني : أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه ، وخبر الله تعالى كذلك ; لأنه صدق .

وعن الثالث : بأن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران ، وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا ; لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإضافته إلى مسيلمة ، وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب ، سلمنا أنه خبر واحد ، لكنه كاذب ؛ لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا ، وليس الأمر كذلك فكان كاذبا لا محالة .

وأما التعريف الثاني : فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن كون الخبر صدقا أو كذبا ، فقولنا : الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب ، جار مجرى قولنا : الخبر هو الذي [ ص: 159 ] يحتمل الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب ، فيكون هذا تعريفا للخبر بالخبر ، وبالصدق والكذب ، والأول هو تعريف الشيء بنفسه ، والثاني تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به .

وأما التعريف الثالث : فالاعتراض عليه من ثلاثة وجوه :

الأول : أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا : السواد موجود ، فهذا خبر مع أنه لا يفيد إضافة الشيء إلى شيء آخر .

والثاني : أنا إذا قلنا : الحيوان الناطق يمشي ، فقولنا : الحيوان الناطق يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان ، مع أنه ليس بخبر ; لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة .

والثالث : أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور ; لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشيء ، والإثبات هو الإخبار عن وجوده ، فتعريف الخبر بهما دور .

قال الرازي وإذا بطلت هذه التعريفات ، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم بدليلين :

الأول : أن كل أحد يعلم بالضرورة إما أنه موجود وإما أنه ليس بمعدوم ، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص ، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء ، فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفا على الاكتساب ; لكان تصور الخبر الخاص أولى بأن يكون كذلك ، فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ، ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرنا .

الثاني : أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ، ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا لم يكن الأمر كذلك .

فإن قلت : الخبر نوع من أنواع الألفاظ ، وأنواع الألفاظ ليست تصوراتها بديهية ، فكيف قلت : إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا ؟

قلت : حكم الذهن بين أمرين : بأن أحدهما له الآخر ، وليس له الآخر معقول واحد ، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل واحد يدرك من نفسه ويجد تفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية ، من ألمه ولذته ، وجوعه وعطشه .

وإذا ثبت هذا فنقول : إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني ، فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل ، وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالإشكال غير وارد أيضا ; لأن [ ص: 160 ] مطلق اللفظ الدال على المعنى بديهي التصور انتهى .

ويجاب عنه : بأن المراد اللفظ الدال والإشكال وارد ، ولا نسلم أن مطلق اللفظ الدال بديهي التصور ، وقد أجيب عما ذكره بأن كون العلم ضروريا كيفية لحصوله ، وأنه يقبل الاستدلال عليه ، والذي لا يقبله هو نفس الحصول الذي هو معروض الضرورة ، فإنه يمتنع أن يكون حاصلا بالضرورة والاستدلال ، لتنافيهما .

وأجيب أيضا : بأن المعلوم ضرورة ، إنما هو نسبة الوجود إليه إثباتا ، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهية الخبر ، فلا يلزم أن تكون ماهية الخبر ضرورية .

وقيل : إن الخبر لا يحد لتعسره ، وقد تقدم بيانه في تعريف العلم .

وقيل : الأولى في حد الخبر أن يقال : هو الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية ، والمراد بالخارج : ما هو خارج عن كلام النفس ، المدلول عليه بذلك اللفظ ، فلا يرد عليه ( قم ) ; لأن مدلوله الطلب نفسه ، وهو المعنى القائم بالنفس من غير أن يشعر بأن له متعلقا واقعا في الخارج ، وكذا يخرج جميع المركبات التقييدية والإضافية .

واعترض على هذا الحد بأنه إن كان المراد أن النسبة أمر موجود في الخارج لم يصح في مثل اجتماع الضدين وشريك الباري .

وأجيب بأن المراد : النسبة الخارجية عن المدلول ، سواء قامت تلك النسبة الخارجية بالذهن كالعلم ، أو بالخارج عن الذهن كالقيام ، أو لم تقم بشيء منهما نحو شريك الباري ممتنع .

والأولى أن يقال في حد الخبر : هو ما يصح أن يدخله الصدق والكذب لذاته ، وهذا الحد لا يرد عليه شيء مما سبق .

وقد اختلف هل الخبر حقيقة في اللفظي والنفسي ، أم حقيقة في اللفظي مجاز في النفسي ، أم العكس ، كما وقع الخلاف في الكلام على هذه الثلاثة أقوال ; لأن الخبر قسم من أقسامه .

[ ص: 161 ] وإذا عرفت الاختلاف في تعريف الخبر ، عرفت بأن ما لا يكون كذلك ليس بخبر ، ويسمونه إنشاء وتنبيها ، ويندرج فيه الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والنداء ، والتمني ، والعرض ، والترجي ، والقسم .

انقسام الخبر إلى صدق وكذب

التالي السابق


الخدمات العلمية