إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 172 ] القسم الثاني : الآحاد

وهو خبر لا يفيد بنفسه العلم سواء كان لا يفيده أصلا ، أو يفيده بالقرائن الخارجة عنه ، فلا واسطة بين المتواتر والآحاد . وهذا قول الجمهور .

وقال أحمد بن حنبل : إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم ، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي . قال : وبه نقول .

وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس ، واختاره ، وأطال في تقريره ، ونقل الشيخ في التبصرة عن بعض أهل الحديث أن منها ما يوجب العلم ، كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه ، وحكى صاحب المصادر عن أبي بكر القفال أنه يوجب العلم الظاهر .

وقيل في تعريفه : هو ما لم ينته بنفسه إلى التواتر ، سواء كثر رواته ، أو قلوا ، وهذا [ ص: 173 ] كالأول في نفي الواسطة بين التواتر والآحاد .

وقيل في تعريفه : هو ما يفيد الظن ، واعترض عليه بما لم يفد الظن من الأخبار .

ورد : بأن الخبر الذي لا يفيد الظن ، لا يراد دخوله في التعريف ، إذ لا يثبت به حكم ، والمراد تعريف ما يثبت به الحكم .

وأجيب عن هذا الرد : بأن الحديث الضعيف الذي لم ينته تضعيفه إلى حد يكون به باطلا موضوعا يثبت به الحكم ، مع كونه لا يفيد الظن .

ويرد هذا الجواب : بأن الضعيف الذي يبلغ ضعفه إلى حد لا يحصل معه الظن لا يثبت به الحكم ، ولا يجوز الاحتجاج به في إثبات شرع عام ، وإنما يثبت الحكم بالصحيح ، والحسن لذاته أو لغيره ، لحصول الظن بصدق ذلك ، وثبوته عن الشارع .

وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد ، وأنه وقع التعبد به ، وقال القاساني والرافضة وابن داود : لا يجب العمل به ، وحكاه الماوردي عن الأصم وابن علية وقال : إنهما قالا لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات ، ويقبل في غيره من أدلة الشرع .

[ ص: 174 ] وحكى الجويني في شرح الرسالة عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد إلا بعد قرينة تنضم إليه ، وهو علم الضرورة ، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق ، وقال : وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، قال بعد حكاية هذا عنه : فإن تاب ، فالله يرحمه ، وإلا فهو مسألة التكفير ; لأنه إجماع فمن أنكره يكفر .

قال ابن السمعاني : واختلفوا - يعني القائلين بعدم وجوب العمل بخبر الواحد - في المانع من القبول ، فقيل : منع منه العقل ، وينسب إلى ابن علية والأصم .

وقال القاساني من أهل الظاهر ، والشيعة : منع منه الشرع ، فقالوا : إنه لا يفيد إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا .

ويجاب عن هذا : بأنه عام مخصص ، لما ثبت في الشريعة من العلم بأخبار الآحاد .

ثم اختلف الجمهور في طريق إثباته ، فالأكثر منهم قالوا : يجب بدليل السمع .

وقال أحمد بن حنبل ، والقفال وابن شريح وأبو الحسين البصري من المعتزلة وأبو جعفر الطوسي من الإمامية والصيرفي من الشافعية : إن الدليل العقلي دل على وجوب العمل ; لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر الوارد عن الواحد .

وأما دليل السمع : فقد استدلوا من الكتاب بمثل قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ وبمثل قوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة .

ومن السنة بمثل قصة أهل قباء ، لما أتاهم واحد فأخبرهم أن القبلة قد تحولت فتحولوا ، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم ينكر عليهم .

وبمثل بعثه صلى الله عليه وآله وسلم لعماله واحدا بعد واحد ، وكذلك بعثه [ ص: 175 ] بالفرد من الرسل يدعو الناس إلى الإسلام .

ومن الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد ، وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد ، ولو أنكره منكر لنقل إلينا ، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم ، كالقول الصريح .

قال ابن دقيق العيد : ومن تتبع أخبار النبي والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا انتهى .

وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به ، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد ، وجد ذلك في غاية الكثرة ، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط ، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال ، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبرا واحدا من ريبة في الصحة ، أو تهمة للراوي ، أو وجود معارض راجح ، أو نحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية