إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
فصل : في ألفاظ الرواية

[ من الصحابي ]

اعلم أن الصحابة إذا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو أخبرني ، أو حدثني ، فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما كان مرويا بهذه الألفاظ أم ما يؤدي معناها ، كشافهني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو رأيته يفعل كذا ، فهو حجة ، بلا خلاف .

وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كأن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا ، أو أمر بكذا ، أو [ ص: 202 ] نهى عن كذا ، أو قضى بكذا ، فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة ، سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم ; لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى تقدير أن ثم واسطة ، فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور ، وهو الحق .

وخالف في ذلك داود الظاهري فقال : إنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ، ولا حجة لهذا ، فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب .

وقد أنكر هذه الرواية عن داود بعض أصحابه ، فإن قال الصحابي أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا بصيغة الفعل المبني للمفعول ، فذهب الجمهور إلى أنه حجة ; لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة .

وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية إنه لا يكون حجة ; لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء .

ويجاب عنه بأن : هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور .

وحكى ابن السمعاني قولا ثالثا ، وهو الوقف ، ولا وجه له ; لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور ، وظهور وجه يدفع الوقف ; إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما .

وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولا رابعا ، وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة ; لأنه لم يتأمر عليه أحد ، وبين أن يكون القائل غيره ، فلا يكون حجة ، ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة .

وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولا خامسا ، وهو الفرق بين كون قائله من أكابر [ ص: 203 ] الصحابة ، كالخلفاء الأربعة ، وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة ، وبين كون قائله من غيرهم ، فلا يكون حجة ، ولا وجه لهذا أيضا لما تقدم .

وأيضا فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ، ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ، ويريد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه لا حجة في قول غيره .

ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بعد موته ، فإن لها حكم الرفع ، وبها تقوم الحجة .

ومثل هذا إذا قال : من السنة كذا ، فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه قال الجمهور .

وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم : أنه يحمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظاهر وإن جاز خلافه ، وقال في الجديد : يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة .

ويجاب عنه : بأن هذا احتمال بعيد ، والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ; ليعملوا بها ، فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون ؟

قال الكرخي والرازي والصيرفي : إنه ليس بحجة ; لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة ; لاستناده إلى الشرع ، وحكى هذا الجويني عن المحققين .

ويجاب عنه : بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع ، فلا يحمل عليه .

[ ص: 204 ] ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له .

وأما التابعي إذا قال : من السنة كذا ، فله حكم مراسيل التابعين ، هذا أرجح ما يقال فيه ، واحتمال كونه أراد مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر ، فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج ، وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة .

قال ابن عبد البر : إذا أطلق الصحابي السنة ، فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها ، كقولهم ( سنة العمرين ) ، ونحو ذلك .

فإن قال الصحابي : كنا نفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا ، أو كانوا يفعلون كذا ، فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ، ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتكون الحجة في التقرير ، وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا ، فقد يضاف فعل البعض إلى الكل .

وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أقوال ، فقال : قبله أبو الفرج من أصحابنا ، ورده أكثر أصحابنا ، وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد : والوجه التفصيل بين أن يكون شرعا مستقلا ، كقول أبي سعيد : كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير . الحديث . فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل ، كقول رافع بن [ ص: 205 ] خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك ، ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي .

وقيل : إن ذكر الصحابي ذلك في معرض الحجة حمل على الرفع ، وإلا فلا .

وأما لو قال الصحابي : كانوا يفعلون ، أو كنا نفعل ، ولا يقول على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تقوم بمثل هذه الحجة ; لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا هو حكاية للإجماع .

وقالت الحنفية والحنابلة : إنه إجماع . قال الغزالي : إذا قال التابعي : كانوا يفعلون كذا فلا يدل على فعل جميع الأمة ، ولا حجة فيه ; إلا أن يصرح بنقل الإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية