إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
فصل : في طرق معرفة العدالة

وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها ، وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها : الاختبار في الأحوال بطول الصحبة والمعاشرة والمعاملة ، فإذا لم [ ص: 217 ] يعثر عليه على فعل كبيرة ، ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية ، فهو ثقة ، وإلا فلا .

ثم التزكية ، وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ، ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره ، والجمهور على قبوله ، ويكفي أن يقول : هو عدل .

قال القرطبي : لا بد أن يقول هو عدل رضي ، ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ، ولا وجه لهذا ، بل الاقتصار على أحدهما ، أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال ، وأما التعديل من واحد فقط ، فقيل : لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة ، وحكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء . قال الأبياري وهو قياس مذهب مالك ، وقيل : يقبل .

قال القاضي : والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ، ذكرا أو أنثى ، حرا أو عبدا ، شاهدا أو مخبرا ، وقيل : يشترط في الشهادة اثنان ، ويكفي في الرواية واحد ، كما يكفي في الأصل ; لأن الفرع لا يزيد على الأصل ، وهو قول الأكثرين ، كما حكاه الآمدي والصفي الهندي . قال ابن الصلاح : وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره ; لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر ، فلا يشترط في جرح رواته ، ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة ، وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة ، وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل ، لا في الشهادة ، ولا في الرواية ، ثم اختار قبول قولها فيهما ، كما تقبل روايتها وشهادتها . انتهى .

ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن يتمكن من اختبار أحوال من زكته ، كأن تكون ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله ، أو يكون الذي وقعت تزكية المرأة امرأة مثلها ، ويدل على هذا سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة .

[ ص: 218 ] وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشهادته ، كذا قال الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما ، قال القاضي : وهو أقوى من تزكيته باللفظ ، وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال : لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده ، وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب ، قال ابن دقيق العيد : وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه ، أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهرا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا .

ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة ، فإن ذلك يكفي .

قال ابن الصلاح : وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه ، وممن ذكره من المحدثين الخطيب ونقله عن مالك وشعبة والسفيانين وأحمد وابن معين وابن المديني وغيرهم ، قال القاضي أبو بكر : الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضا ، وكان أمرهما مشكلا ملتبسا ، وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تزكية الواحد والاثنين .

قال ابن عبد البر : كل حامل علم معروف العناية به ، فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة ، وهذا الحديث رواه العقيلي في ضعفائه من جهة ابن رفاعة [ ص: 219 ] السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري ، وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف ، وإبراهيم قال فيه القطان : لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا ، وقال الخلال في كتاب العلل : سئل أحمد عن هذا الحديث ، فقيل له : ترى أنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح ، قال ابن الصلاح : وفيما قاله اتساع غير مرضي .

ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي ، حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ، ونقل فيه الآمدي الاتفاق ، واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي في التقريب والغزالي في المنخول .

وقال الجويني فيه أقوال :

أحدها : أنه تعديل له .

والثاني : أنه ليس بتعديل .

والثالث : - قال وهو الصحيح - أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ، ووافق عمله الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل ، وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل ، واختار هذا القاضي في التقريب ، قال : وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر ، فإن الأول يقتضي أنه مستنده ، والثاني لا يقتضي ذلك ، لجواز أن يعمل به لدليل آخر .

وقال الغزالي إن أمكن حمل عمله على الاحتياط فليس بتعديل ، وإلا فهو تعديل ، وكذا قال [ ص: 220 ] الكيا الطبري .

ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر ، فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس ، وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لاعتضاده بذلك فليس بتعديل .

ومن طريق التزكية : أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك ، فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني وابن القشيري والغزالي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم ، قال الماوردي : هو قول الحذاق ، ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورا بينا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته ، بحيث لا تختلف في بعض الأحوال ، فإن لم يظهر ذلك ظهورا بينا فليس بتعديل ، فإن كثيرا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ، ولبيان حالها ، ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح ، وقولهم : روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية