إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
البحث الموفى عشرين : في حجية الإجماع المنقول بطريق الآحاد

الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة ، وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي ، ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر ، وحكى الرازي في المحصول عن الأكثر أنه ليس [ ص: 277 ] بحجة فقال : الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس ; لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ، ولأن الإجماع نوع من الحجة ، فيجوز التمسك بمظنونه ، كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ، ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكذا القول في تفاصيله . انتهى .

وأما عدد أهل الإجماع : فقيل لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافا للقاضي ، ونقل ونقل ابن برهان عن معظم العلماء ، أنه يجوز انحطاط عددهم عقلا عن عدد التواتر ، وعن طوائف من المتكلمين ، أنه لا يجوز عقلا ، وعلى القول بالجواز ، فهل يكون إجماعهم حجة أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حجة ، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق ، وقال إمام الحرمين الجويني : يجوز ، ولكن لا يكون إجماعهم حجة .

قال الصفي الهندي : المشترطون اختلفوا ، فقيل : إنه لا يتصور أن ينقص عدد المجمعين عند عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا ، ومنهم من زعم أن ذلك ، وإن كان يتصور لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين ; لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته ، ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط ذلك فيه ، بل يكفي فيه الظهور ، لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع وهو يوجب كونه متواترا ، وإلا لم يكن قاطعا فيما يقوم مقام نقله متواترا ، وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادرا عن عدد التواتر ، وإلا لم يقطع بوجوده .

قال الأستاذ : وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة كالإجماع ، ويجوز أن يقال للواحد أمة ، كما قال تعالى : إن إبراهيم كان أمة أمة ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين .

قال الزركشي في البحر : وبه جزم ابن سريج في كتاب الودائع ، فقال : وحقيقة الإجماع ، هو القول بالحق ، ولو من واحد ، فهو إجماع ، وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة .

والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر رضي الله عنه لما منعت بنو حنيفة الزكاة فكانت مطالبة أبي بكر لها حقا عند الكل ، وما انفرد لمطالبتها غيره ، هذا كلامه ، وخلاف إمام الحرمين فيه أولى ، وهو الظاهر ; لأن الإجماع [ ص: 278 ] لا يكون إلا من اثنين فصاعدا ، ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة .

قال إلكيا المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد ، والصحيح تصوره ، وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف ، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق ، قال : والذي حمله على ذلك أنه لم ير في اختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه ، فسوى بين العدد والفرد ، وأما المحققون سواه فإنهم يعتبرون العدد ، ثم يقولون المعتبر عدد التواتر ، فإذا مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول ، وهو يستدعي وفور عدد من الأولين ، وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد ، فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية