1. الرئيسية
  2. شرح مشكل الآثار
  3. باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العارية مما يحتج به من يوجب ضمانها
صفحة جزء
[ ص: 291 ] 690 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العارية مما يحتج به من يوجب ضمانها ومما سوى ذلك ، مما روي عنه فيها

4454 - حدثنا الحسن بن مخلد بن حازم الكوفي الخزاز ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا شريك بن عبد الله ، عن عبد العزيز وهو ابن رفيع ، عن ابن أبي مليكة ، عن أمية بن صفوان بن أمية ، عن أبيه قال : استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعا من حديد يوم حنين ، فقال له : يا محمد ، مضمونة ؟ فقال : مضمونة " ، فضاع بعضها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إن شئت غرمناها لك ، قال : لا ، أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله .

[ ص: 292 ] قال : ففي هذا الحديث اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان فيما كان أعاره إياه من تلك الأدراع الضمان . فتأملنا هذا الحديث في إسناده كيف هو . ؟

4455 - فوجدنا أحمد بن شعيب قد حدثنا قال : أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أمية بن صفوان بن أمية ، عن أبيه ، ثم ذكر مثله ، ولم يذكر في إسناده ابن أبي مليكة .

فاختلف يزيد والحماني على شريك في إسناد هذا الحديث كما ذكرناه ، ثم التمسناه من رواية غير شريك إياه ، عن عبد العزيز

4456 - فوجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا أبو غسان ، عن [ ص: 293 ] إسرائيل بن يونس ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن صفوان بن أمية ، ولم يتجاوزه في إسناده إلى أبيه ولا إلى غيره ، قال : استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعا ، فضاع بعضها ، فقال : إن شئت غرمناها لك ، قال : لا يا رسول الله .

فقوي في قلوبنا دخول ابن أبي مليكة في إسناد هذا الحديث ، والقضاء في ذلك للحماني على يزيد . ثم وجدنا شريكا وإسرائيل قد اختلفا فيمن بعد ابن أبي مليكة في إسناد هذا الحديث ، فكان في إسناد شريك أنه عن أمية بن صفوان عن أبيه ، وفي حديث إسرائيل عن ابن صفوان وهو أمية ، وليس فيه ذكره إياه : عن أبيه .

ثم نظرنا في هذا الحديث أيضا هل نجده في غير روايتي شريك وإسرائيل ، فنقف على حقيقته كيف هو في ذلك . ؟

4457 - فوجدنا أحمد بن داود قد حدثنا قال : حدثنا مسدد بن مسرهد ، حدثنا أبو الأحوص ، حدثنا عبد العزيز بن رفيع ، عن عطاء بن أبي رباح ، [ ص: 294 ] عن ناس من آل صفوان بن أمية قالوا : استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية سلاحا ، فقال له صفوان : أعارية أم غصب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل عارية " ، فأعاره ما بين ثلاثين إلى أربعين درعا ، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فلما هزم المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا أدرع صفوان " ، ففقدوا من دروعه دروعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان : " إن شئت غرمناها لك " ، فقال صفوان : يا رسول الله ، إن في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ .

4458 - وحدثنا أحمد بن داود قال : وحدثناه مسدد مرة أخرى قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعا ، ثم ذكر هذا الحديث [ ص: 295 ] قال أبو جعفر : فوجدنا أبا الأحوص قد اضطرب في إسناد هذا الحديث هذا الاضطراب ، فجعله مرة عن ناس من آل صفوان ، ومرة عن صفوان نفسه ، وكانت روايتاه إياه جميعا عن عطاء بن أبي رباح [ لا ] عن ابن أبي مليكة وكان هذا مما قد خالف فيه شريكا وإسرائيل في إسناد هذا الحديث ، وليس في روايتيه جميعا ذكر ضمان اشترطه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان أعاره إياه من تلك الأدراع .

ثم نظرنا هل رواه عن عبد العزيز غير شريك وإسرائيل وأبي الأحوص أم لا ؟

4459 - فوجدنا الربيع المرادي قد حدثنا قال : حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أناس من آل عبد الله بن صفوان قالوا : أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو حنينا ، فقال لصفوان : " ما عندك سلاح تعيرنا ؟ " فقال : أعارية أم غصب ؟ قال : " بل عارية " ، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا ، فأراد أن يغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك من أشراف مكة وساداتهم ، وإني أكره أن أغزي مكة ، فأقم ، فأقام ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغوا من غزاتهم أمر بدروع صفوان أن تجمع ، فجمعت ، فافتقدوا منها دروعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان : " إن شئت غرمناها لك " ، فقال صفوان : لا ، إن في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ .

[ ص: 296 ] فكان في هذا الحديث أن الذي أخذه عبد العزيز عنه إنما هو من أخذه عنه من آل عبد الله بن صفوان ، فخالف كل من ذكرناه قبله في هذا الباب من رواة هذا الحديث عن عبد العزيز ، وعاد بروايته إياه منقطعا غير موصول الإسناد ، وليس في روايته ولا في رواية أبي الأحوص إياه عن عبد العزيز بن رفيع ذكر ضمان للعارية ، فوقفنا بذلك على اضطراب هذا الحديث هذا الاضطراب الشديد ، وما كانت هذه سبيله ، لم يكن مثله تقوم به حجة لأحد على مخالف له فيه ، وبالله التوفيق .

وكان معقولا أن العارية لو كانت مضمونة لغني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذكر ضمانها لصفوان ، ولقال له : وهل تكون العارية إلا مضمونة ؟ ففي تركه ذلك دليل على أن إحداثه له بقوله : " إنها مضمونة " ضمانا أوجبه ذلك القول لا نفس العارية ، وقد كان صفوان يومئذ حديث عهد بالجاهلية ، لأن حنينا إنما غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، وكان صفوان قبل ذلك قد عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراطات للحربيين ما لا توجبه الشريعة من المسلمين بعضهم لبعض ، من ذلك اشتراطه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أن من جاءه من المشركين راغبا في دينه تاركا لما عليه المشركون رده إليه ، وأن من جاء إلى المشركين من أصحابه لم يردوه [ ص: 297 ] إليه ، وأن من جاءه من نساء المشركين داخلا في دينه رد إليه ما كان ساق إلى زوجته من الصداق للتزويج الذي كان بينه وبينها ، وكان صفوان يوقفه على مثل هذه الأشياء التي قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترطها للمشركين مما لا يجوز أمثالها بين المسلمين ، فيجوز ذلك للمشركين ، ويلزم لهم المسلمين ، سأل مثل ذلك ليلزم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أن من شريعته وجوب الضمان في العارية ، وهذه علة صحيحة ذكرها لي محمد بن العباس عن محمد بن الحسن بغير ذكر منه من أخذها منه عنه ، وذلك شبيه بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ما كانت عليه العرب في لغته ولغاتها ; لأن الذين كانوا عليه في ذلك هو الإيجاز لا ما سواه ، وكانت العارية لو كانت شريعته توجب ضمانها لغني بذكرها عن ذكر ضمانها ، ولكن الذي كان منه بعد ذلك مما سأله صفوان إياه أحدث حكما لم يكن قبله ، وهو وجوب ضمانها بالاشتراط الذي اشترط له فيها ، ومما قد دل على ذلك ما قد روي عنه صلى الله عليه وسلم في العارية في غير هذا الحديث .

4460 - كما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إن العارية مؤداة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم " .

[ ص: 298 ]

4461 - وكما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 299 ] فكان في هذين الحديثين إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن العارية مؤداة ، وفي ذلك ما يوجب أنها أمانة ، كما قال الله عز وجل : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، فكشف ذلك [ ص: 300 ] ما قد ذكرناه مما حملنا حديث صفوان عليه ، مع أن حديث صفوان قد رواه قتادة عن عطاء بن أبي رباح ، وليس بدون عبد العزيز بن رفيع ، ولم يتجاوزه به بهذا اللفظ أيضا .

4462 - كما حدثنا أحمد بن الحسن بن القاسم الكوفي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين ، فقال له : أمؤداة يا رسول الله العارية ؟ قال : " نعم " .

فلم يكن ما روى عبد العزيز عليه حديث صفوان بأولى به مما رواه عليه قتادة مع تكافئهما في انقطاعه في أكثر الروايات عن عبد العزيز .

فقال قائل : فقد روينا عن عبد الله بن عباس وعن أبي هريرة ما يوجب غرم العارية إذا ضاعت في يد مستعيرها لمعيره إياها .

وذكر ما قد حدثنا يونس ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن السائب ، عن أبي هريرة وعن عمرو ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس رضي الله [ ص: 301 ] عنهما قالا : العارية تضمن إن اتبعها صاحبها .

وما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا نعيم ، حدثنا جرير يعني ابن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كتب إليه في العارية : أن اضمنها لصاحبها .

[ ص: 302 ] فكان جوابنا له في ذلك أنا لم ندفع أن يكون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرى ضمان العارية ، ولكنه - وإن كان من ذكر في هذين الحديثين قد ضمنها - فإن منهم من لم يضمنها وجعلها أمانة ، وهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .

كما قد حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمار بن عمر الحلبي قاضي أهل مكة ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن هلال بن عبد الرحمن يعني الوزان ، عن ابن عكيم يعني عبد الله بن عكيم الجهني ، عن ابن عمر ، عن عمر أنه كان لا يضمن العارية .

وكما حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا يوسف بن إبراهيم المزني ، حدثنا عبد الرزاق ، عن إسرائيل بن يونس ، عن عبد الأعلى ، عن محمد ابن الحنفية ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان لا يضمن العارية ، ويقول : هي معروف .

[ ص: 303 ] قال أبو جعفر : ولما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمها هذا الاختلاف رجعنا إلى ما يوجبه النظر فيما اختلفوا فيه من ذلك ، فوجدنا العارية مقبوضة من ربها بطيب نفسه بذلك ، لا بعوض يعوضه على ما أباح منها ، وقد وجدنا الأشياء المستأجرات مقبوضة من أربابها بأعواض يجب على مستأجريها إياها منهم لهم ، وكانت ملك الأشياء المستعملة على ذلك غير مضمونة ، وإذا كانت مع وجوب الأعواض في استعمالها غير مضمونة كانت في استعمالها على غير وجوب الأعواض في ذلك أحرى أن لا تكون مضمونة ، وهكذا كان الكوفيون أبو حنيفة والثوري وأصحابهما وكثير منهم سواهم يذهبون إليه في ذلك .

فأما المدنيون فيجعلون ما ضاع من ذلك مما يظهر ضياعه يضيع على الأمانة ، وما كان من ذلك مما يخفى ضياعه يضيع على الضمان ، ولا فرق في القياس في ذلك بين ما يظهر ضياعه وبين ما يخفى ضياعه ، كما لا فرق بين ذلك في الغصوب المضمونات وفي الودائع الأمانات ، وفي رفعهم الضمان فيما يظهر هلاكه ما يجب به عليهم رفع [ ص: 304 ] الضمان فيما يخفى هلاكه .

وقد حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني الليث بن سعد ، حدثني طلحة بن أبي سعيد ، حدثني خالد بن أبي عمران قال : سألت سليمان بن يسار عن رجل استعار دابة من رجل ، وأخبره بما يريد بها ، فأعاره إياها على ذلك ، فأصيبت في تلك العارية ، هل عليه غرامة ؟ قال : لا ، إلا أن يكون قتلها متعمدا .

قال الليث : على هذا أدركنا شيوخنا في أنه ليس في العارية ضمان إلا أن يتعدى ما استعارها له ، فيضمن .

وقد قال ابن شهاب : على هذا أدركنا الناس حتى اتهم الولاة الناس فضمنوهم .

وفيما ذكرنا أن الجماعة من متقدمي أهل المدينة ومن متقدمي أهل مصر على ترك تضمين العارية ما لم يتعد فيها ، وتأملنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان فيما ضاع من دروعه ، فوجدنا فيه أنه قال له : " إن شئت غرمناها لك " ، فعقلنا بذلك أن غرمها لم يكن في الحقيقة واجبا لولا ما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القول الذي كان أعطاه فيها ، ولو كانت مضمونة لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم غرمها له ، ولا رد ذلك إلى مشيئته إياه ، ولحقق وجوب غرمها له عليه كما يقول أهل العلم في الدين الذي لبعض الناس على بعض : إنه واجب لمن هو [ ص: 305 ] عليه مطالبة من هو له عليه يأخذه منه حتى تبرأ ذمته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك وأشدهم تمسكا به .

وفي جواب صفوان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : إن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن يومئذ . دليل على أن الذي كان اشترطه عليه من الضمان لما أعاره إياه كان على حكم غير الإيمان ، كما قال محمد بن الحسن مما ذكرناه من رواية محمد بن العباس . وفي ذلك ما قد دل على أن حكم العارية بين أهل الإيمان بخلاف ذلك من انتفاء الضمان عنها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية