صفحة جزء
[ ص: 531 ] 721 - باب بيان مشكل ما روي في الدية التي ودي بها الأنصاري ، هل كانت من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أو من إبل الصدقة ؟ أو من عند اليهود ؟

قال أبو جعفر : قد روينا في حديث أبي سلمة وسليمان ، عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ديته على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم . ففي هذا الحديث قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها على يهود ، وفي حديث سهل بن أبي حثمة من غير حديث سعيد بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرمها من عنده ، فيحتمل أن يكون غرمها من عنده ، وقد جعلها واجبة [ ص: 532 ] على غيره ، فغرمها من حيث لا يجب عليه غرمها ، ولم يدفع ذلك أن يكون قد تقدم قضاؤه بها على من قضى بها عليه ، وفي حديث سعيد بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى ذلك القتيل بها من إبل الصدقة ، فيحتمل أن يكون قول من قال : وداه من عنده ، أي : مما يدل عليه ، وإن لم يكن مالكا له ، حتى لا تتضاد هذه الأحاديث وحديث سهل ، ويحتمل أن يكون أداؤه لذلك من إبل الصدقة ، لا غرما عن اليهود ، لأنهم ليسوا من أهل الصدقة ، ولكن كي لا تبطل دية ذلك القتيل ، ويطل دمه ، فدفع ذلك من إبل الصدقة لهذا المعنى ، لا أنه دفع عن اليهود شيئا يسقط عنهم ما كان قضى به عليهم ، وفي ذلك ما قد دل على أن من غرم عن رجل دينا كان عليه لمن هو له أنه لم يملك الذي كان عليه الدين شيئا مما غرمه عنه ، وهكذا كان محمد بن الحسن يقوله في هذا ، حتى قال في رجل تزوج امرأة على مائة درهم فأدى إليها رجل عنه تلك المائة ، ثم طلقها زوجها قبل أن يدخل بها : إن نصف الصداق الواجب عليها رده يجب عليها رده إلى الذي أدى إليها المائة لا إلى زوجها ، ولم يحك محمد في ذلك خلافا بينه وبين أحد من أصحابه ، وقد قال قائل : إنها تردها على الزوج ، والقول عندنا في ذلك القول الأول ، لأن الدراهم إنما خرجت في البدء من ملك مؤديها إلى ملك المرأة ، لا إلى ملك الزوج ، وهذا عندنا أيضا يدل على خلاف ما قاله مالك بن أنس فيمن أدى عن رجل دينا عليه بغير أمره إلى من هو له أنه يرجع بذلك الدين على الذي كان عليه ، لأنه قد ملكه بأدائه إياه عنه ، وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دفع من إبل الصدقة ما دفع ليرجع إليه مثله ، وقد ذكرنا أيضا من الحجة على هذا [ ص: 533 ] القول فيما تقدم منا في كتابنا هذا ما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي على من ترك عليه دينا لم يترك له وفاء ، وإن أبا قتادة لما ضمن ذلك عن المتوفى الذي لم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين الذي عليه ، ولم يترك له وفاء ذلك الذي عليه ، صلى عليه .

فعقلنا بذلك أن مؤدي الدين لو كان يرجع إليه بأدائه إياه عنه ، فيكون له أخذ من هو عليه به ، لكان دين ذلك الميت قد عاد إلى أبي قتادة ، ولم يبرأ من الدين ، ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي صلاته عليه ما قد دل أن الدين لم يرجع إلى أبي قتادة ، ولم يملكه ، وفي هذا بيان لما وصفنا ، وإيضاح للحكم كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، ثم وجدنا في هذا المعنى حديثا آخر فيه غير ما في هذه الآثار التي ذكرنا في هذا الباب ، وهو :

4592 - ما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن معمر البحراني ، حدثنا روح بن عبادة حدثنا عبيد الله بن الأخنس ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقم شاهدين على من قتله ، أدفعه إليك برمته ، فقال : يا رسول الله ومن أين أصيب شاهدين ؟ وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم ، قال : " فتحلف خمسين قسامة ؟ " قال : يا رسول الله ، وكيف أحلف على ما لا أعلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فنستحلف منهم خمسين [ ص: 534 ] قسامة ؟ " فقال : يا رسول الله كيف نستحلفهم وهم كفار ، أو وهم مشركون ؟ فقسم النبي صلى الله عليه وسلم ديته عليهم ، وأعانهم ببعضها .

ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ديته على اليهود بغير حلف كان في تلك الدعوى عليهم ، وفي ذلك ما قد دل على أن الدية لزمتهم بوجود القتيل بين ظهرانيهم ، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عونه إياهم بنصف دية القتيل ، فذلك عندنا - والله أعلم - على أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم غرما عن الأنصار لا عن اليهود ، ولأن الذي غرمه في ذلك إنما كان من الأموال التي لا تحل لليهود ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية