1. الرئيسية
  2. شرح مشكل الآثار
  3. باب بيان مشكل ما روى بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد شهادة المحدود في الإسلام
صفحة جزء
[ ص: 355 ] 765 - باب بيان مشكل ما روى بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد شهادة المحدود في الإسلام .

4866 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن يزيد بن أبي زياد الشامي ، قال : حدثنا الزهري ، عن عروة ، قال : قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ، ولا ذي غمر لأخيه ، ولا مجرب عليه شهادة زور ، ولا القانع مع أهل البيت لهم ، ولا الظنين في ولاء ، ولا قرابة .

[ ص: 356 ] [ ص: 357 ] فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : لا تجوز شهادة مجلود حدا .

ووجدنا الأوزاعي قد كان يذهب هذا المذهب حتى كان يقول في المجلود في الخمر : إنه لا تقبل شهادته وإن تاب .

كما أجاز لنا محمد بن سنان الشيزري ، عن محمود بن خالد ، عن عمر بن عبد الواحد ، قال : سمعت الأوزاعي يقول : لا تجوز شهادة محدود في الإسلام ، ولا معلوم منه شهادة زور ، ولا ظنين في ولاء ، ولا قرابة ، ولا خائن ، ولا خائنة ، ولا ذي غمر على أخيه ، ولا خصم ، ولا مريب .

وكانت ألفاظ الأوزاعي في هذه الحكاية هي ألفاظ هذا الحديث غير ما في آخره من ذكر الخصم والمريب ، فوقفنا بذلك على أنه أخذ قوله هذا من ذلك الحديث إما عن يزيد الذي حدث به عنه مروان ، أو ممن هو أعلى منه ممن فوق يزيد ، وهو الزهري ، ولم نجد له على قوله : إنه لا تجوز شهادة مجلود حدا من أهل العلم موافقا غير الحسن بن صالح بن حي ، فإنا وجدنا عنه مما ذكره حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عنه أنه كان يقول : إذا ضرب القاضي رجلا في حد لم تجز شهادته أبدا ، وإن تاب ، وهذا القول مما يخالفهما فيه [ ص: 358 ] فقهاء الأمصار سواهما .

ثم تأملنا ما اختلفا وفقهاء الأمصار فيه من هذا المعنى ، فوجدنا أشياء مما قد حرمها الله - عز وجل - وتوعد عليها وغلظ العقوبات فيها من الزنى ومن السرقة ، وكانت العقوبات فيها كفارات لمصيبها ، منها قطع أيدي السراق ، ومنها إقامة حد الزنى على الأبكار من الزناة ، وهي الجلد ، وعلى الثيب منهم وهي الرجم .

ووجدنا أهل العلم لا يختلفون في قبول شهادة المقطوعين في السرقات إذا تابوا ، ولا في قبول شهادة الزناة الأبكار المحدودين إذا تابوا ، وفي ذلك ما قد دل على أن سائر المحدودين فيما سوى الزنى والسرقة كذلك أيضا ، غير ما قد أخرجه كتاب الله - عز وجل - من ذلك في حد القذف بقوله عز وجل : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، فأبانهم - عز وجل - ممن سواهم وألزمهم الفسق الذي جعله وصفا لهم ، وأعقب ذلك بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .

وكان أهل العلم قد اختلفوا في قبول شهادتهم بعد التوبة مما قد كان هذا حكمهم ، فقال بعضهم : يزول ذلك عنهم بالتوبة ، ويرجعون إلى قبول الشهادة ، وقال بعضهم : يزول الفسق عنهم الذي عليه الوعيد ، ولا تقبل لهم شهادة أبدا ، وكان ممن ذهب إلى القول الأول أكثر أهل الحجاز ، وممن ذهب إلى القول الثاني بعض أهل الحجاز ، وكثير ممن سواهم .

[ ص: 359 ] فأما فقهاء الأمصار الذين دارت عليهم الفتيا كمالك ومن سواه من أهل الحجاز ، فيقبلون شهادتهم بعد التوبة ، وكذلك كان الشافعي يقول في هذا .

وأما أبو حنيفة والثوري وأصحابهما ، فكانوا لا يقبلونها أبدا ، ويجعلون حكمهم في ردها منهم بعد التوبة كحكمهم في ردها منهم قبل التوبة .

وقد تعلق الحجازيون والذين قبلوا شهادتهم بعد التوبة بما قد رووه عن عمر بن الخطاب مما كان قاله لأبي بكرة ، بعد حده إياه فيما كان منه في المغيرة بن شعبة .

كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك أو تب تقبل شهادتك .

[ ص: 360 ] قال : فتأملنا هذا الحديث فوجدناه قد دخل في إسناده ما يدفع أن يكون فيه حجة لمن احتج به على مخالفه .

كما قد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول : زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز ، فأشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكرة : تب ، تقبل شهادتك ، أو إن تتب قبلت شهادتك ، قال : وسمعت سفيان بن عيينة يحدث به هكذا مرارا ، ثم سمعته يقول : شككت فيه ، قال الزهري : أخبرني ، فلما قمت سألت ، فقال لي عمر بن قيس وحضر المجلس معي : هو سعيد بن المسيب ، قلت لسفيان : أشككت فيه حين أخبرك أنه سعيد ، قال : لا ، غير أنه قد كان دخلني الشك .

[ ص: 361 ] قال أبو جعفر : فكان عمر المذكور في هذا الحديث ، الذي استثبت [ ص: 362 ] به سفيان فيه هو عمر بن قيس ، وهو عند أهل الرواية غير ثبت فيها ، وإذا كان كذلك لم يكن ما ثبت من قد شك في حديث يكون ذلك قطعا لشكه فيه ، ثم قد وجدنا هذا الحديث قد رواه عن الزهري من هو من أهل الثقة في روايته والقبول لها ، وهو الليث بن سعد .

كما قد حدثنا هارون بن كامل ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : حدثني ابن شهاب ، أنه بلغه أن عمر بن الخطاب استتاب أبا بكرة فيما قذف به المغيرة بن شعبة ، فأبى أن يتوب ، وزعم أن ما قال حق وأقام على ذلك ، وأصر عليه ، فلم يكن تجوز له شهادة .

وتعلقوا في ذلك أيضا .

بما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين وسعيد بن أبي مريم قالا : حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : شهد على المغيرة أربعة ، فنكل زياد فجلد عمر بن الخطاب الثلاثة واستتابهم ، فتاب اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب ، فكانت تقبل شهادتهما حين تابا ، وكان أبو بكرة لا تقبل شهادته ; لأنه أبى أن يتوب [ ص: 363 ] وكان مثل النضو من العبادة .

فقال الذين تعلقوا بالحديث الأول : هذا الحديث لا طعن فيه ، ولا يسع أحدا التخلف عن القول به ، وكان من الحجة لمخالفيه عليه بتوفيق الله - عز وجل - وعونه ، أن سعيد بن المسيب لم يأخذ هذا عن عمر سماعا منه ، وإنما أخذه عنه بلاغا ; لأن سعيدا وإن كان قد رأى عمر فإنه لا يصح له عنه سماع هذا منه ، والدليل على أن الحديث لم [ ص: 364 ] يكن عند سعيد بالقوي ، أنه قد كان يذهب إلى خلاف ما فيه .

كما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب أنهما قالا : القاذف إذا تاب ، توبته فيما بينه وبين ربه - عز وجل - ، ولا تقبل شهادته .

وكما حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، ثم ذكر بإسناده وبمتنه مثله .

فدل ذلك : أن الأولى كان عند سعيد بن المسيب ترك قبول شهادة القاذف وإن تاب ، وعقلنا أن ما حدث به عنه عن عمر لم يكن صحيحا عنده ; لأنه يستحيل عندنا أن يكون مع جلالة عمر - رضي الله عنه - وعظم قدره عنده يقول هذا القول لا سيما بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينكرونه عليه ، ولا يخالفونه فيه ، ثم يتركه إلى خلافه .

وقال قائل ممن يذهب إلى قبول شهادة القاذف بعد توبته : قد [ ص: 365 ] روي هذا القول عن عطاء وطاوس ومجاهد .

وذكر ما قد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثني إسماعيل ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في القاذف إذا تاب ، قال : تقبل شهادته ، وقال : كلنا يقوله عطاء وطاوس ومجاهد .

وذكر غيره في ذلك .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال : قلت : لعطاء : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، قال : إذا تاب قبلت شهادته .

[ ص: 366 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه قد خالفهم في ذلك من هو أجل منهم ، وهو سعيد بن المسيب ، ووافقه على ذلك مثله ممن قد قضى للخلفاء الراشدين المهديين وهو شريح .

كما قد حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا إسماعيل بن سالم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا الشيباني ، عن الشعبي ، عن شريح ، قال : لا تجوز شهادته إذا تاب ، يعني : القاذف ، توبته فيما بينه وبين ربه .

وخالفهم في ذلك من هو مثلهم أو فوقهم ، وهو الحسن البصري ، ولما اختلفوا في ذلك هذا الاختلاف نظرنا فيما اختلفوا فيه من ذلك فوجدناهم لا يختلفون في القذف : أنه لا يمنع من قبول شهادة القاذف قبل أن يحد فيها .

ألا ترى أن رجلا لو شهد على رجل بالزنى وحده ، ثم شهد بشهادة وظاهره العدل في شهادته ، وهو يقول : ما شهدت عليه إلا بحق أن شهادته مقبولة وأنه إذا حد فيها ، ثم جاء فشهد بشهادة سواها وهو مقيم على شهادته تلك أن شهادته مردودة ، وإن كان الحد الذي [ ص: 367 ] أقيم عليه طهارة له ، إن كان كاذبا في شهادته ، ولما كانت الشهادة غير مردودة بما قد جعل فيه قاذفا بظاهره ، ومردودة بإقامة العقوبة عليه فيها ، وهو الحد الذي حد فيها ، وكانت التوبة إن كانت منه بعد ذلك فإنما هي من القول الذي كان منه في الشهادة التي شهد بها ، ولم ترد شهادته بذلك القول وإنما ردت بغيره وهو الجلد ، وكان الجلد مما لا توبة فيه ، وإنما التوبة فيما قد تقدمه من الشهادة التي كان فيها قاذفا ، ولم تكن مسقطة للشهادة ، وإنما الذي أسقط الشهادة الحد الذي كان بعدها ، وكانت الشهادة بعد الجلد وقبل الجلد بمعنى واحد ، فلما كانت لا تمنع من قبول الشهادة ، وكان الذي يمنع من قبول الشهادة سواها مما هو مفعول بالشاهد ، وكانت توبته إنما تكون من أفعاله ومن أقواله لا مما فعل به كان رد شهادته بعدها على حكمه الذي كان عليه قبلها ; لأن الذي ردت به شهادته هو مما لا توبة فيه ، وإنما التوبة في غيره . وفيما ذكرنا دليل صحيح على ثبوت قول الذين ذهبوا إلى رد الشهادة بعد التوبة ممن ذكرنا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية