صفحة جزء
[ ص: 417 ] 918 - باب بيان مشكل قول الله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك .

5725 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، ويريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله تعالى : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن الآية إلى قوله عز وجل : وترغبون أن تنكحوهن ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب ، الآية الأولى التي فيها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى [ ص: 418 ] فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة : وقول الله تعالى في الآية الأخرى : وترغبون أن تنكحوهن : رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال ، والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن .

5726 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة مثله ، وزاد في آخره : إذا كن قليلات المال .

وقد روي هذا الحديث عن عائشة من ناحية الزهري كما قد ذكرنا .

وقد روي عنها من ناحية هشام بن عروة بدون ذلك .

[ ص: 419 ]

كما حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن قالت عائشة : هذا في اليتيمة تكون عند الرجل يعلم أن تكون شريكته في ماله ، وهو أولى به ، فيرغب عنها لمالها أن ينكحها غيره كراهية أن يشركه في مالها .

وقد روي عن عبد الله بن عباس في تأويلها أيضا مثل الذي روي عن عائشة رضي الله عنها من ذلك .

كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا علي بن معبد ، وكما حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، قالا : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا قال ابن عباس : فكما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا [ ص: 420 ] .

وكما حدثنا روح ، حدثنا حامد بن يحيى ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو سعد ، عن محمد بن أبي موسى ، عن ابن عباس في قوله : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء قال : إن خفتم عليهن الزنى فانكحوهن .

ففيما روينا عن عائشة ، وعن ابن عباس ما قد دل على إباحة تزويج اليتامى ، وهن اللاتي لا أب لهن ، وهذا يؤكد ما كان أبو حنيفة وأصحابه يذهبون إليه في إجازة تزويج أولياء اليتامى قبل بلوغهن من أنفسهم وغيرهم من الناس .

فقال قائل : هؤلاء اليتامى المذكورات في الآيتين اللتين تلونا في ما رويتم هن اليتامى اللاتي قد بلغن قبل ذلك ، فسمين بذلك لقربهن كان من اليتم ، واحتجوا لذلك بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

5727 - كما قد حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي أبو زرعة ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، [ ص: 421 ] عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تستأمر اليتيمة في نفسها ، وإن سكتت فقد أذنت ، وإن أنكرت لم تكره .

5728 - وكما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو - يعني ابن علقمة - عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اليتيمة تستأمر ، فإن رضيت ، فلها رضاها ، وإن أنكرت فلا جواز عليها [ ص: 422 ] .

5729 - وكما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن عمرو ، حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

قالوا : والاستئذان والاستئمار ، فلا يكون إلا لمن بلغ ، وفي ذلك ما قد دل على أنه قد يجوز أن يطلق اسم اليتيم على من بلغ قبل ذلك ، فمثل ذلك من أطلق عليه اسم اليتيم لقربه كان منه في الآثار التي رويتموها في هذا الباب ، هو أيضا على من بلغ ممن قد كان يتيما قبل ذلك ، فأطلق عليه اسم اليتيم لقربه كان منه .

[ ص: 423 ] فكان جوابنا له في ذلك : أن الأمر في ذلك ليس كما ذكر ، وأن في الآيتين اللتين تلوناهما في هذه الآثار التي قد روينا ما قد دل أنه أريد بذلك اليتامى غير البالغات ، لأن فيهما : أن أولياءهن نهوا أن ينكحوهن إلا أن يبلغوا بهن أعلى نسائهن في الصداق ، ولو كن بالغات ، لكان أمرهن في صداقهن إنما يرجع فيه إلى ما يرضين به مما قل ومما كثر لا إلى ما سوى ذلك ، لأن الله تعالى قال : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا ، وإذا كان لهن أن يطبن به نفسا لأزواجهن بعد وجوب صدقاتهن عليهم ، كان لهن ذلك قبل وجوب صدقاتهن عليهم بأن يعقد التزويج بينهن وبينهم على ما قد رضين به في ذلك أحرى ، وكان في منع الله إياهن من ذلك في الآيتين اللتين تلونا ما دل أنهن اليتامى اللاتي لا رضى لهن ، وهن غير بالغات .

ثم قد وكد ذلك ما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد تقدم ذكرنا له فيما مضى من كتابنا هذا في : باب بيان مشكل لا طلاق إلا بعد نكاح ، من قوله : لا يتم بعد الحلم ، فنفى بذلك أن يكون بعد الحلم يتم .

فقال هذا القائل : فما معنى حديثي أبي موسى وأبي هريرة اللذين قد ذكرت بعد انتفاء البلوغ عن اليتامى المذكورات فيهما ، وفيهما تحقيق الاستئذان والاستئمار ؟

فكان جوابنا له في ذلك : أنه قد يحتمل أن يكون أريد بما فيهما [ ص: 424 ] اليتامى اللاتي قد عقلن ، وعرف منهن ما تميل قلوبهن إليه مما فيه صلاحهن ، أو بعد قلوبهن مما سوى ذلك مما لا صلاح لهن فيه ، وإن كن لم يبلغن ، وعسى أن يكون مع بعضهن - وإن كن لم يبلغن - من حسن الاختيار أكثر مما مع غيرهن ممن بلغ من ذلك ، ولكنه لا يجاوز فيهن ، وفي من سواهن أمر الله تعالى الذي أمر به في خلقه ، ويكون مما ينبغي لأوليائهن أن يفعلوه فيهن إذا كن كذلك ، وأرادوا تزويجهن لاعتبار ما عندهن في ذلك من ميل إليه ، وفي رغبة عنه ، لأنهن يعرفن من أنفسهن ما لا يعرفه منهن غيرهن ، فيكون ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فيهن على هذا المعنى لا على ما سواه ، وإذا انتفى ذلك ، ثبت جواز تزويج الأولياء اليتامى اللاتي لم يبلغن ، كما قال من ذهب إلى ذلك من أهل العلم ما قد ذكرناه عنه فيه .

وقد دل على هذا المعنى أيضا ما قد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيه من مذهبه في تزويج الأيتام قبل البلوغ ، مما قد دل : أن تأويل الآيتين اللتين تلونا كان عنده على ما كان تأويلها عليه عند عائشة وابن عباس .

كما حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يحيى بن أبي الهيثم ، أخبرنا أبو داود يزيد الأودي ، قال : كنت عند علي بعد العصر ، إذ أتي برجل فقالوا : وجدنا هذا في خربة مراد معه جارية مخضب قميصها بالدم ، فقال له : ويحك ما هذا الذي صنعت ؟ قال : أصلح الله أمير المؤمنين ، كانت بنت عمي [ ص: 425 ] يتيمة في حجري وهي غنية في المال ، وأنا رجل قد كبرت وليس لي مال فخشيت إن هي أدركت ما يدرك النساء ترغب عني فتزوجتها ، قال : وهي تبكي ، فقال : أتزوجتيه ؟ فقائل من القوم عنده يقول لها : قولي نعم ، وقائل يقول لها : قولي لا ، فقالت : نعم تزوجته ، فقال : خذ بيد امرأتك .

فيدل ما كان من علي رضي الله عنه في هذا الحديث على أن تأويل الآيتين اللتين تلونا كمثل الذي كان تأويلهما عليه عند عائشة ، وابن عباس مما ذكرنا عنهما ، وفي ذلك ما قد دل على جواز نكاح الرجل من نفسه من هو وليه ، كما يقوله أبو حنيفة ، ومالك وأصحابهما في ذلك ، وبخلاف من يقول : إن الرجل لا يكون مزوجا من نفسه كما لا يكون بائعا من نفسه ، وفي حديث علي الذي ذكرنا ما قد دل أن قول من إليه عقد تزويج قد كنت عقدته مخبرا بذلك : أن القول فيه قوله كما يقول ذلك من يقوله من أهل العلم منهم : أبو يوسف ومحمد ، وبخلاف ما كان أبو حنيفة يقوله فيه ، إن ذلك لا يقبل منه إلا ببينة تقوم عليه فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية