صفحة جزء
(ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، ببغداد، أخبرنا أبو بكر بن عتاب العبدي، حدثنا القاسم الجوهري، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، قال: " وأقام أبو بكر للناس حجهم، وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن يقتلوك" ، قال: لو وجدوني نائما ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى الطائف، وقدم الطائف عشيا، فجاءته ثقيف فحيوه ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه وعصوه، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه، فخرجوا من عنده حتى إذا سحر وطلع الفجر قام على غرفة له في داره، فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فزعموا [ ص: 300 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه قتله: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه" .

وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف فيهم: كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وهو أصغر الوفد حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يريدون الصلح والقضية حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلمت عامة العرب، فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله، أنزل علي قومي فأكرمهم فإني حديث الجرم فيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أمنعك أن تكرم قومك، ولكن منزلهم حيث يسمعون القرآن" وكان من جرم المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف وأنهم أقبلوا من مصر حتى إذا كانوا ببصاق عدا عليهم وهم نيام فقتلهم، ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خمس مالي هذا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما نبؤك؟" قال: كنت أجيرا لثقيف فلما سمعت بك قتلتهم وهذه أموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لسنا نغدر" ، وأبى أن يخمس ما معه، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما، لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه، فلما سمع وفد ثقيف، قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه قولهم، قال: "فإني أول من شهد أني رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

وكانوا يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لأنه أصغرهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة [ ص: 301 ] عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعجب منه وأحبه.

فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا فقال كنانة بن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا، قال: "نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم" .

قالوا: أفرأيت الزنا؛ فإنا قوم نغترب لا بد لنا منه، قال: " هو عليكم حرام، إن الله عز وجل يقول: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .

قالوا: أفرأيت الربا؛ فإنها أموالنا كلها، قال: " لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ".

قالوا: أفرأيت الخمر؛ فإنها عصير أرضنا، ولا بد لنا منها، قال: " إن الله قد حرمها، قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا نكاتبه على ما سألنا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نعم [ ص: 302 ] لك ما سألت.

أرأيت الربة ماذا نصنع فيها قال: "اهدموها" ، قالوا: هيهات، لو تعلم الربة أنك تريد هدمها قتلت أهلها، قال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أحمقك إنما الربة حجر، قال: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا: يا رسول الله تول أنت هدمها، فأما نحن فإنا لن نهدمها أبدا.

قال: "فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها" ، فكاتبوه، فقال كنانة بن عبد ياليل: ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في آثارنا فإني أنا أعلم بقومي، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم، وحباهم، وقالوا: يا رسول الله أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان تعلم سورا من القرآن قبل أن يخرج.

وقال كنانة بن عبد ياليل: أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموهم القضية وخوفوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمدا سألنا أمورا أبيناها عليه، سألنا أن نهدم اللات والعزى، ونبطل أموالنا في الربا، ونحرم الخمر والزنا، فخرجت ثقيف حين دنا منهم الوفد يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العنق، وقطروا الإبل، ونعشوا أنيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخبر، فلما رأت ثقيف ما في وجوه القوم قال بعضهم لبعض: ما جاء وفدكم بخير، ولا رجعوا به، فدخل الوفد فعمدوا إلى اللات فنزلوا عندها، واللات بيت كان بين ظهري الطائف يستر ويهدى له كما يهدى لبيت الله الحرام، فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها: إنهم لا عهد لهم برؤيتها، ثم رجع كل رجل منهم إلى أهله، وجاء كل رجل منهم خاصته من ثقيف فسألوهم ماذا جئتم به وماذا رجعتم به؟ قالوا: أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء قد ظهر بالسيف وأداخ له العرب، ودان له الناس فعرض علينا أمورا شدادا: هدم اللات والعزى، وترك [ ص: 303 ] الأموال في الربا، إلا رؤوس أموالكم، وحرم الخمر والزنا، فقالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدا، قال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيؤوا للقتال، ورموا حصنكم، فمكثت ثقيف بذلك يومين وثلاثة يريدون - زعموا - القتال، ثم ألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فقالوا: والله ما لنا به طاقة، وقد أداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه، فلما رأى ذلك الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمان على الخوف والحرب، قال الوفد: فإنا قد قاضينا وأعطيناه ما أحببنا وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه، فافهموا ما في القضية، واقبلوا عافية الله، فقالت ثقيف: لم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم، فقالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما، ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة ، فلما قدموا عمدوا اللات ليهدموها، واستكفت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها، فوالله لا تستطاع أبدا، فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا على سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض، وجعل صاحب المفتاح يقول: ليغضين الأساس فليخسفن بهم، فلما سمع ذلك المغيرة، قال لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبهتت ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرضاع وتركوا المصاع، وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول [ ص: 304 ] الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله عز وجل على نصره نبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه
هذا لفظ حديث موسى بن عقبة، ورواية عروة بمعناه" وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم من تبوك المدينة في رمضان وقدم عليه ذلك الشهر وفد من ثقيف، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود، فأدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم قاتلوك" ، ثم ذكر قصة رجوعه وقتله وأنه قيل له في دمه بعد ما رمي، فقال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم.

فأقامت ثقيف بعد قتل عروة بن مسعود أشهرا، ثم ذكر قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامهم، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمان الطاغية، وأقام أبو سفيان في ماله، ودخل المغيرة بن شعبة وعلاها يضربها بالمعول، وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن:

[ ص: 305 ]

لتبكين دفاع


أسلمها الرضاع


لم يحسنوا المصاع

.


التالي السابق


الخدمات العلمية