صفحة جزء
1142 - وحدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن بكار القافلائي ، قال : حدثنا أبو الأصبغ محمد بن عبد الرحمن بن كامل الأسدي ، قال : حدثنا أبي [ ص: 1661 ] قال : حدثنا علوان بن داود البجلي ، عن الليثي يعني : - أبا المصبح - عن أبي الزناد ، قال : لما اشتد المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ، بمكة قال لعمه العباس : "يا عم امض بي إلى عكاظ ، فأرني منازل أحياء العرب حتى أدعوهم إلى الله عز وجل ، وأن يمنعوني ويؤووني حتى أبلغ عن الله عز وجل ما أرسلني به" ، فقال له العباس : نعم ، فأنا ماض معك ، حتى أدلك على منازل الأحياء .

قال محمد بن الحسين :

فذكر الحديث عرضه على القبائل ؛ قبيلة قبيلة ، فكل لم يجبه ، وكان مع [ ص: 1662 ] النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب ، وأبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ثم انصرف عنهم . . .اختصرت أنا الحديث . قال فيه :

فلما جاء العام المقبل لقي النبي صلى الله عليه وسلم الستة النفر الخزرجيون ؛ أسعد بن زرارة ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، والنعمان بن حارثة ، وعبادة بن الصامت ، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في أيام منى عند جمرة العقبة ليلا ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل ، وإلى عبادته ، والمؤازرة على دينه الذي بعث به أنبياءه ورسله ، فسألوه أن يعرض عليهم مما أوحي إليه ، فقرأ عليهم من سورة إبراهيم : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ) . . إلى آخر السورة ، فرق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا ، فأجابوه فمر العباس بن عبد المطلب [ رضي الله عنه ] - وهم يكلمونه ويكلمهم ، فعرف صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي ؛ من هؤلاء الذين عندك ؟ قال : "سكان يثرب من الأوس والخزرج ، وقد دعوتهم إلى ما دعوت إليه من قبلهم من الأحياء فأجابوني ، وصدقوني وذكروا أنهم يخرجونني معهم إلى بلادهم ، فنزل العباس وعقل راحلته ، ثم قال : يا معشر الأوس والخزرج ؛ هذا ابن أخي ، وهو أحب الناس إلي . . . ثم ذكر ما جرى بينهم وبين العباس من الخطب الطويل ، قال : فقام أسعد بن زرارة - وهو أصغر القوم - فقال فيما خاطب فيه العباس : وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى نأخذ مواثيقنا ، فهذه خصلة لا يردها على أحد أرادها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخذ ما شئت . . والتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ؛ خذ لنفسك ما شئت [ ص: 1663 ] واشترط لربك ما شئت ، فقال صلى الله عليه وسلم : "أشترط لربي عز وجل ، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم" ، قالوا : فذلك لك يا رسول الله ، قال : فقال العباس : عليكم بذلك ذمة الله مع ذمتكم ، وعهد الله مع عهودكم في هذا الشهر الحرام ، والبلد الحرام تبايعونه وتبايعون الله ربكم ، يد الله عز وجل فوق أيديكم لتجدن في نصرته ، ولتشدن من أزره ، ولتوفن له بعهده ، بدفع أيديكم ، وصرح ألسنتكم ، ونصح صدوركم ، ثم لا تمنعنكم رغبة أشرفتم عليها ، ولا رهبة أشرفت عليكم ، ولا يؤتى من قبلكم . قالوا جميعا : نعم . قال : اللهم إنك سامع شاهد ، فإن ابن أخي قد استرعاهم دمه ، واستحفظهم نفسه ، اللهم : فكن لابن أخي عليهم شهيدا ، فرضي القوم بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كانوا قالوا له : يا رسول الله ، إذا أعطيناك ذلك فما لنا ؟ قال : "لكم رضوان الله والجنة" ، قالوا : رضينا وقبلنا ، فأقبل ابن التيهان ، على أصحابه فقال : ألستم تعلمون أن هذا رسول الله إليكم ، وقد آمنتم به وصدقتموه ؟ فقالوا : بلى . قال : أولستم تعلمون أنه في البلد الحرام ومسقط رأسه وعشيرته ومولده ؟ قالوا : بلى . قال : فإن كنتم خاذليه أو مسلميه يوما من الدهر لبلاء ينزل بكم فالآن ، فإن العرب سترميكم فيه عن قوس واحدة ، فإن طابت أنفسكم عن الأنفس والأموال والأولاد في ذات الله عز وجل ، فما عند الله من الثواب خير من أنفسكم وأموالكم وأولادكم ، فأجاب القوم جميعا : لا ، بل نحن معه بالوفاء والصدق .

ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ لعلك إذا حاربنا الناس فيك ، [ ص: 1664 ] وقطعنا ما بيننا وبينهم من الحلف والجوار والأرحام ، وحملتنا الحرب على سيسائها ، وكشفت لنا عن قناعها لحقت ببلدك وتركتنا ، وقد حاربنا الناس فيك ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : "الدم الدم ، الهدم الهدم" .

فقال عبد الله بن رواحة : خل بيننا يا أبا الهيثم حتى نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبقهم أبو الهيثم إلى بيعته ، فقال : "أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه السلام" . وقال عبد الله بن رواحة : "أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه السلام" ، وقال أسعد بن زرارة : "أبايع الله يا رسول الله وأبايعك على أن أتم عهدي بوفاي ، وأصدق قولي بفعلي في نصرك" .

وقال النعمان بن حارثة : "أبايع الله يا رسول الله ، وأبايعك على الإقدام في أمر الله ، لا أراقب فيه القريب ولا البعيد ، فإن شئت والله ملنا بأسيافنا ساعتنا هذه على أهل منى ، فقال رسول صلى الله عليه وسلم : "لم أؤمر بذلك" .

وقال عبادة بن الصامت : أبايعك يا رسول الله ، على أن لا تأخذني في الله لومة لائم .

وقال سعد بن الربيع : أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصي لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا .

[ ص: 1665 ] وانصرف القوم إلى بلدهم مسرورين ، فنشروا ما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وحسنت إجابة قومهم لهم حتى وافوه من قابل وهم سبعون رجلا ، فصاح إبليس تلك الليلة حين رأى جماعتهم صيحة أسمعت جماعة قريش ، وذلك في أيام التشريق ، فنادى يا أهل منى ؛ هذا محمد وأهل يثرب ، قد أجمعوا على الحمل عليكم ، واستباحة حريمكم .

قال : وشبه صوته بصوت منبه بن الحجاج السهمي ، قال عمرو بن العاص : فكان أول من أتاني فزعا يجر ثوبه أبو جهل وقد أفزعني ما أفزعه ، وأخذتني العرواء - وهي الرعدة - وقمت لأبول ، فلما فحجت جاءني أبو جهل فأعجلني ، فقال : قم أنائم أنت ! أما أفزعك ما أفزعنا ! وتوجه إلى عتبة بن ربيعة ، فأخبره بصوت منبه بن الحجاج ، يخبر إن محمدا وأهل يثرب قد أجمعوا على الحمل عليكم ، واستباحة حريمكم ، قال عمرو بن العاص : فأتينا رجلا وقورا معه ذهنه لم يرعه ما راعنا ، - يعني عتبة - فقال عتبة : هل أتاكم فأخبركم بهذا ؟ قالوا : لا ، ولكنا سمعنا صوته . قال : فلعله الخيتعور - يعني : إبليس - الكذاب . ثم قال : انهضوا فمضى القوم نحو السبعين ، قال عمرو : والله لقالوا : سبعين ، فظننا أنهم سبعمائة ، فدفعنا إلى القوم معدين ، فكان أول من سبق إليهم ، وكلم القوم أبو سفيان بن حرب ، فقال :

يا أهل يثرب ساء ما ظننتم ، إذ منتكم أنفسكم أنكم تخرجون بأخينا عن غير ملأ منا ولا مشورة ، تقحما منكم علينا وظهورا ، ولئن ظننتم أنا نقر بذلك [ ص: 1666 ] أو نرضى به ، لبئس ما رأيتم .فقال النعمان بن حارثة : بل نخرجه وأنفك راغم ، والله لو نعلم أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن نخرجك معنا لأعلقنا في عنقك حبلا ، ثم سقناك ذليلا .

قال : فارتدع أبو سفيان ، وقال : ما تلك لكم بعادة ، ولو تكلمت بهذا في جمع من الموسم لكذبك غير واحد ، إن العرب لتعلم أنا أعز أهل البطحاء وأمنعه ، أفما عندك من الجواب غير هذا ؟

قال : يقول عبد الله بن رواحة : بل تنصرفون عنا ، فإنه أجمل في الرأي ، وأحسن لذات البين ، وأمثل ، قال أبو سفيان : ونغادره عندكم ؟ !

فقال عبد الله بن رواحة : نعم تغادرونه عند قوم يحبهم ويحبونه ، غير خاذلين له ، ولا أخنا عليه .

قال أبو سفيان : فماذا نقول لنسائنا ؟

قال : تقولون لهن :


فلما رأينا القوم دون نبيهم كأسد حمت عريسها وعرينا     صددنا صدودا كان خير بقية
لنسواننا من بعدنا وبنينا     ولم نر إلا ذاك وجها أو الردى
وطلق نشيبات لنا ورنينا

[ ص: 1667 ]

وقلنا انصراف القوم خير من الردى     أو الحرب تدري أعظما وشؤونا



قال : وتعاظم الأمر بين القوم حتى كاد بعضهم أن ينهض إلى بعض ، فلما رأى ذلك أبو جهل وخشي الفضيحة لكثرة القوم وقلة أصحابه تقدم فقال : أيها القوم ، إنا لم نأت لهذا ، اسكتوا واسمعوا قولي هذا ، وخذوا أو دعوا ، فسكت القوم ، وابتدأ خطيبا فقال :

اللات مجدنا والعزى عصمتنا ، ونحن أهل الله وفي بيته المحجوب ، وواديه المحرم أعز به حرمتنا ، ودفع به عن بيضتنا ، وجعلنا ولاة بيته ، ومنتهى طرق المناسك ، وأهل ألوية الموسم ، وسقاية الحاج ، وحجابة البيت ، ورفادة الكل ، لا تنكرون ذلك ، ولا تدفعونه .

ثم إنكم يا أهل يثرب ؛ قد كنتم إخواننا وجيراننا ، وتودونا ونودكم حتى ارتكبتم منا أمرا لم نكن لنرتكبه منكم تقحما منكم علينا ، وظهورا لحقنا ، أردتم أن تخرجوا بأخينا من غير ملأ منا ولا مشورة ولا رضى ، خلوا بيننا وبينه على مثل هذه الحرة ، وفي مثل اليوم ، فإن لكم في سائر ذلك من الأيام ما تلتمسون ذلك منه في غير ثائرة ولا قطيعة ، هذه أيام عظيمة الحرمة واجبة الحق ، القطيعة فيها مرفوعة ، والعقوبة إليها سريعة ، ثم سكت .

فقام سعد بن عبادة فقال :

الحمد لله الذي هدانا من الضلالة ، وبصرنا من العمى ، واستنقذنا بنور [ ص: 1668 ] الإسلام من ظلمة الجهل ، فعبدنا ربا واحدا ، وجعلنا ما سواه من الأنداد والأوثان دين الشيطان ، أنصابا نصبها الناس بأيديهم ، لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ، ثم إنكم معشر قريش قد تكلمتم ؛ وشر القول ما لا حقيقة له ، زعمتم أنا انتهكنا حرمتكم في ابن أخيكم ، أن أجبنا دعوته ، وشرفنا منزلته واتبعنا أمره ، فما أسأنا في ذلك بكم ولا به ، إذ كانت تلك منزلته عندنا .

ولقد قطعنا فيه من هو أقرب نسبا وأرحاما منكم ، فما التمسنا بذلك سخطهم ، ولا أردنا بذلك رضاكم ، فإن كنتم إنما فزعتم إلى مساءته لمكاننا منه ، فطالما أردتم به تلك وهو بين ظهرانيكم ثم لا تصلون إليه فالآن إذ عقدنا حبلنا بحبله التمستموه ، فأنتم اليوم منها أبعد ، دماؤنا دون دمه ، وأنفسنا دون نفسه ، فإن كان هذا منكم مصانعة للناس ، واتقاء لسخطهم ، فنحن لله عز وجل بعد الذي أعطيناه من أنفسنا أشد خوفا ، وعلى عهودنا بالوفاء أشد حدبا ، فلا سبيل إلى مالا سبيل إليه ، ولكننا سنعرض عليكم رأيا توسلتم إلينا به من الصهر والجوار ، إن شئتم أن تبايعوه كما بايعناه ، ونحن له ولكم تبع ، وإن كرهتم ذلك وكان ظنكم دائرة تخافونها من الناس طلبتم إلى ابن أخيكم وكنا لكم شفعاء ، فأخذتم ما تأمنون به عنده غدا ، وإن كان هذا منكم الحسد والبغي كنا لابن أخيكم جنة ، فإن ظفر فأخوكم وإلا هلكنا دونه وسلمتم وكفيتم الشوكة ، فليسعكم رأيكم ولتسعكم أحلامكم .

[ ص: 1669 ] فلما كثر لغط القوم ، قام عتبة بن ربيعة ، فقال :

يا معشر الأوس والخزرج أنتم الإخوة والجيران والأصهار ، وقد عرضتم في أمر هذا الرجل ، وهذا أمر نريد أن نفكر فيه ، وننظر ثم نعرض عليكم رأينا ، فأمهلونا حتى نتشاور فيه حتى يجتمع أمرنا على أمر يكون لنا ولكم فيه سعة ورضى .

قالوا : ذلك إليك .

فتنحى عتبة بأصحابه حجرة - يعني : ناحية - فقال : هل رأيتم ما رأيت ؟ قال أبو جهل : قد رأينا ما رأيت ، قال : فإن كنت رأيت ما رأيت فقد والله سمعت منطقا تقطر دما ، ورأيت قوما قد أشرفوا في أنفسهم على حظ عظيم ، لا يعدله عندهم شيء ما ، هم ميتون دونه ساعتنا هذه أفتطيب أنفسكم بالموت .

قال أبو جهل وقد ضرع إلى المنازعة : أفنرجع بغير شيء ؟

قال : أظنك والله سترجع بغير شيء أو بشيء عليك لا لك ، فإن أذنتم لي كلمت القوم وآتيتهم من وجه لعلهم يحسنون إجابتكم فيه .

قال عمرو بن العاص : فبدرت القوم ، فقلت : نعم يا أبا الوليد ، تكلم بما شئت ، وقل ما شئت . فنحن طوع يديك ، ولن نخرج من رأيك .

فقام عتبة إلى القوم فقال : يا معشر الأوس والخزرج إنه لم يزل الذي بيننا وبينكم حسنا ، تعرفون ذلك لنا ونعرفه لكم ، وتعرفون منزلتنا من الله في حرمة هذا البيت ، إذ جعلنا ولاة أمره وأكرمنا به ، ولسنا نحب أن يصل إليكم على [ ص: 1670 ] أيدينا ، ولا على ألسنتنا أمر نندم عليه ، وتندمون حين لا تنفع الندامة .

قد عرضتم في هذا الرجل وقد علمتم أن الذي يدعو إليه مخالف لجميع أهل الموسم ، إذ طعن في دينهم ، وعاب آلهتهم ، وسفه رأي آبائهم ، وقد عرض نفسه على جميع القبائل ، فلم يقبله منهم أحد ، وبالله ما آمن أن لو صاح صائح في جميع الموسم فأخبر بمكانه ومكانكم أن يميلوا عليكم ميلة واحدة ، وهذا أمر ليس ننتهزه ، ونحن على وفاز تحت الليل ، وسنعرض عليكم الرأي الذي رأيناه واتفقنا عليه ، إن شئتم أن تخلوا بيننا وبين هذا الرجل ، وتجعلوا بيننا وبينكم أجلا ، ونعطيكم عهد الله وميثاقه علينا وعلى من بعدنا ، لا نؤذيه ولا نعرض له إلا بخير ، ولا لأحد من أصحابه حتى تنتهي مدة الأجل ، والأجل ثلاثة أشهر ، فمن أحب أن يسير إليكم ويكون معكم من أصحابه الذين صدقوه لم نعرض له ، ولا لمن تبعه في هذه الأشهر ، ولا نعرض لمن سار إليكم ، ولا لمن أقام معه منكم ، وفي ذلك يقضي الله في هذه الأشهر ما أحب إليه .

فنظر القوم بعضهم إلى بعض ، وقالوا : قد أعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منا أمرا لا نحب إلا الوفاء به . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسمع مقالتكم ، والرأي رأيه ، والأمر أمره ، ليس لنا معه أمر .

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة أهل يثرب ومقالة قريش ابتدأ خطيبا ، فكان أول ما ابتدأ به فاتحة سورة الأنعام حتى قرأ منها عشر آيات وهي في [ ص: 1671 ] قريش ، وقد كان بدأ قوله أن قال : "إنكم تكلمتم يا معشر من أسلم من الأوس والخزرج ، فأصبتم ووفقتم وأرضيتم الله ورسوله ، وقد تكلمت قريش وسألوكم ما سألوكم ، والله أعلم ما الذي تريد قريش فيما تكلمت به ، وفيما سألوا ، فإن ترد الوفاء لله ولرسوله فالله لهم بالخير ، يوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، وإن أرادوا غير ذلك فالله لقريش بالمرصاد ، ولرسوله بالنصر والكفاية و ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .أعطوا القوم ما سألوا ، فالذي صبر عليه رسول الله من أذاهم في السنين الماضية أطول من هذا الأجل الذي سألوه ، فأعطوهم وخذوا عليهم العهود التي أعطوها من أنفسهم ، فإن في ذلك تنفيسا لكم ولهم ، ومعذرة من الله عز وجل إليهم ، وحجة له عليهم .فأعطاهم القوم ما أرادوا ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش ، فكان أول من هاجر من المسلمين إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار ، وعمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، أخو أبي جهل لأمه ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر ، وجماعة من المهاجرين .

وأسلم في تلك الأشهر وهاجر أكثر من الكثير ، وواستهم الأوس والخزرج في أموالهم ودورهم .

[ ص: 1672 ] فلما رأى ذلك المشركون كبر عليهم ، وهموا بالغدر حتى أجمعوا لذلك في دار الندوة . فأجمع لذلك المكر الذي أرادوه وجوههم وأشرافهم وأتاهم إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن جعشم المدلجي من كنانة قريش في زي رجل من أهل نجد عليه برد ، فلما رأوه قالوا : ما أنت ؟ قال : شيخ من أهل نجد ، بلغني ما اجتمعتم له في أمر هذا الرجل ، فأردت أن أحضر ذلك ، ولعله لم يعدمكم مني رأي .

فتكلم عتبة ، فقال : أرى أن تخرجوه من بين أظهركم فتكفيكموه الأحياء ، فإن ظفر كان ذلك لكم ، وإن كان غير ذلك كفتكموه الأحياء ولم يبدو شيئا من أمره .

فقال النجدي : ما هذا برأي ، أما سمعتم حلاوة منطقه ، وأخذه بالقلوب ، فما آمن لو وقع في حي من الأحياء فاستقاد أهواءهم ، أن يسير بهم إليكم حتى يفرق جماعتكم .

قال آخر : أرى أن يوثق ، ويحبس حتى يجيئه أجله وهو في حبسه .

قال النجدي : ليس هذا برأي ، أما علمتم أن له خاصة ، وأهل بيت لا يرضون بذلك ، فتقع الحرب بينكم ، فيكون في ذلك توهين لأمركم ، وتفريق لجماعتكم .

قال أبو جهل : إني لأرى رأيا لئن أخذ به فهو الرأي ، قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ [ ص: 1673 ]

قال : يؤخذ من هذه الأحياء الخمسة أحياء قريش ، من كل حي رجل شاب ، فيعطى كل رجل سيفا فيأتونه في مضجعه الذي يبيت فيه ، فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يقدر أهل بيته على أن يقتلوا هؤلاء ، فيتفرق دمه في القبائل ، ويكون دية .

فقال النجدي : لله دره أصاب الرأي ، ثم قال النجدي : وهو إبليس ، لعنه الله :


الرأي رأيان ، رأي ليس يعرفه     هاد ورأي كصدر السيف معروف
يكون أوله يسري لآخره     يوما ، وآخره مجد وتشريف



فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جبريل عليه السلام فأخبره ، فأتى أبا بكر رضي الله عنه نصف النهار ، فأخبره الخبر ، فخرج إليهم أبو بكر رضي الله عنه فأصابهم حين خرجوا من دار الندوة فماشى إبليس لعنه الله ساعة ، ثم قال : أين تريد ؟ قال : أصحابي لي في هذا الوادي .

قال : أي عدو الله ، الحمد لله الذي أظهر دينه وخذلك ، فخفي عليه .


هذا آخر الحديث .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر رضي الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية