صفحة جزء
143 - حدثنا الفريابي ، قال : حدثني محمد بن داود ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : سمعت محمدا - يعني : ابن سيرين - وما رآه رجل في شيء ، فقال محمد : " إني قد أعلم ما تريد ، وأنا أعلم بالمراء منك ، ولكني لا أماريك " .

[ ص: 454 ] قال محمد بن الحسين : ألم تسمع رحمك الله إلى ما تقدم ذكرنا له من قول أبي قلابة : " لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " . أو لم تسمع إلى قول الحسن وقد سأله رجل عن مسألة ، فقال : تناظرني في الدين ؟ فقال له الحسن : " أما أنا فقد أبصرت ديني ، فإن كنت أنت أضللت دينك فالتمسه " .

أو لم تسمع إلى قول عمر بن عبد العزيز : " من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل " .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه ، إن شاء الله تعالى .

فإن قال قائل : فإن اضطرني الأمر وقتا من الأوقات إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم ؟

قيل له : الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء ، فيمتحن الناس [ ص: 455 ] ويدعوهم إلى مذهبه ، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل ، ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس ، ودعوهم إلى مذهبهم السوء ، فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين ، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل ، فناظروهم ضرورة لا اختيارا ، فأثبت الله - تعالى - الحق مع أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته ، وأذل الله - تعالى - المعتزلة وفضحهم ، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ومن تابعه إلى يوم القيامة ، وأرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبدا .

وبلغني عن المهتدي - رحمه الله - أنه قال : ما قطع أبي - يعني : الواثق - إلا شيخ جيء به من المصيصة ، فمكث في السجن مدة ثم إن أبي ذكره يوما فقال : علي بالشيخ ، فأتي به مقيدا ، فلما أوقف بين يديه سلم ، فلم يرد عليه السلام ، فقال له الشيخ : " يا أمير المؤمنين ، ما استعملت معي أدب الله تعالى ، ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ( وإذا [ ص: 456 ] حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام . فقال له : وعليك السلام ، ثم قال لابن أبي دؤاد : سله . فقال : يا أمير المؤمنين ! أنا محبوس مقيد ، أصلي في الحبس بتيمم ، منعت الماء ، فمر بقيودي تحل ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي ، ثم سلني . قال : فأمر بحل قيده ، وأمر له بماء فتوضأ وصلى . ثم قال لابن أبي دؤاد : سله . فقال الشيخ : المسألة لي ، تأمره أن يجيبني ، فقال : سل ، فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد فقال : أخبرني عن هذا الذي تدعو الناس إليه ، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا . قال : فشيء دعا إليه أبو بكر بعده ؟ قال : لا ، قال : فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب بعدهما ؟ قال : لا . قال : فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم ؟ فقال : لا . قال : فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب بعدهم ؟ قال : لا . قال : فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي رضي اللهم عنهم ، [ ص: 457 ] ، تدعو أنت الناس إليه ؟ ليس يخلو أن تقول : علموه أو جهلوه ، فإن قلت : علموه وسكتوا عنه ، وسعنا وإياك ما وسع القوم من السكوت ، وإن قلت : جهلوه وعلمته أنا ، فيا لكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئا تعلمه أنت وأصحابك ! ! قال المهتدي : فرأيت أبي وثب قائما ، ودخل الحيزى ، وجعل ثوبه في فيه ، يضحك ، ثم جعل يقول : صدق ؛ ليس يخلو من أن نقول : جهلوه أو علموه ؛ فإن قلنا : علموه ، وسكتوا عنه ، وسعنا من السكوت ما وسع القوم ، وإن قلنا : جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع ! يجهل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا تعلمه أنت ، وأصحابك ! ثم قال : يا أحمد . قلت : لبيك ، قال : لست أعنيك ، إنما أعني ابن أبي دؤاد ، فوثب إليه فقال : أعط هذا الشيخ نفقة وأخرجه عن بلدنا " .

قال محمد بن الحسين :

وبعد هذا فأمر بحفظ السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن أصحابه رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان ، وقول أئمة المسلمين ؛ مثل مالك بن [ ص: 458 ] أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك وأمثالهم ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، والقاسم بن سلام ، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء ، وينبذ من سواهم ولا يناظر ولا يجادل ، ولا يخاصم ، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره ، وإن حضر مجلسا هو فيه قام عنه ، هكذا أدبنا من مضى من سلفنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية