صفحة جزء
139 - وحدثنا الفريابي ، قال : حدثنا الحسن بن علي الحلواني بطرسوس ، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، قال : سمعت مطرف بن عبد الله ، يقول : سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول : قال [ ص: 461 ] عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - : " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها اتباع لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد من الخلق تغييرها ، ولا تبديلها ، ولا النظر في شيء خالفها ، من اهتدى بها فهو مهتد ، ومن استنصر بها فهو منصور ، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا " .

قال محمد بن الحسين :

فإن قال قائل : هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه ، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي ينكرها أهل الحق ، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة ، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق ، وما أشبه ذلك من الأحكام ، هل لنا مباح أن نناظر فيه ونجادل أم هو محظور علينا ؟ عرفنا ما يلزم فيه ، كيف السلامة منه ؟

قيل له : هذا الذي ذكرته ما أقل من يسلم من المناظرة فيه ، حتى لا [ ص: 462 ] يلحقه فيه فتنة ولا مأثم ، ولا يظفر فيه الشيطان .

فإن قال كيف ؟

قيل له : هذا قد كثر في الناس جدا ؛ في أهل العلم والفقه في كل بلد يناظر الرجل الرجل ، يريد مغالبته ، ويعلو صوته ، والاستظهار عليه بالاحتجاج ، فيحمر لذلك وجهه ، وتنتفخ أوداجه ، ويعلو صوته ، وكل واحد منهما يحب أن يخطئ صاحبه ، وهذا المراد من كل واحد منهما خطأ عظيم ، لا تحمد عواقبه ، ولا يحمده العلماء من العقلاء ؛ لأن مرادك أن يخطئ مناظرك : خطأ منك ، ومعصية عظيمة ، ومراده أن تخطئ : خطأ منه ومعصية ، فمتى يسلم الجميع ؟ ! فإن قال قائل : فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة .

قيل له : هذا كلام ظاهر ، وفي الباطن غيره .

[ ص: 463 ] وقيل له : إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لتطلب الفائدة كما ذكرت ، فإذا كنت أنت حجازيا ، والذي يناظرك عراقيا ، وبينكما مسألة ، تقول أنت : حلال ، ويقول هو : بل حرام . فإن كنتما تريدان السلامة وطلب الفائدة فقل : - رحمك الله - هذه المسألة قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ ، فتعال حتى نتناظر فيها ؛ مناصحة لا مغالبة ، فإن يكن الحق فيها معك اتبعتك وتركت قولي ، وإن يكن الحق معي اتبعتني وتركت قولك ، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك ، ولا تريد أن أخطئ ولا تغالبني ، فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل ، وما أعز هذا في الناس .

فإذا قال كل واحد منهما : لا نطيق هذا ، وصدقا عن أنفسهما . قيل : لكل واحد منهما : قد عرفت قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم وأنت فلا ترجع عن قولك ، وترى أن خصمك على الخطإ ، وقال خصمك كذلك ، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة ، إذا كان كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه ، ، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه ، فأنتما آثمان بهذا المراد ، أعاذ الله العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد .

[ ص: 464 ] فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة ، فالسكوت أسلم ، قد عرفت ما عندك وما عنده ، وعرف ما عنده وما عندك ، والسلام .

ثم لا تأمن أن يقول لك في مناظرته : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقول : هذا حديث ضعيف ، أو تقول لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك لترد قوله ، وهذا عظيم ، وكذلك يقول لك أيضا ، فكل واحد منكما يرد حجة صاحبه بالمجازفة والمغالبة .

وهذا موجود في كثير ممن رأينا ، يناظر ويجادل حتى ربما خرق بعضهم على بعض .

هذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، وكرهه العلماء ممن تقدم ، والله أعلم .

[ ص: 465 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية