صفحة جزء
1905 - حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني ، قال : حدثنا [ ص: 2420 ] عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا عبد الله - يعني ابن عمرو - عن إسحاق بن راشد ، عن الزهري ، عن عروة وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله - كلهم عن عائشة ، [ رضي الله عنها ] فيما قال لها أهل الإفك فبرأها الله عز وجل مما قالوا .

قال الزهري : وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عنها ، وبعض حديثهم يصدق بعضا وإن كان بعضهم أوعى له من بعض .

قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم معه .

قالت عائشة رضي الله عنها : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ، فخرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، حتى إذا فرغ من غزوته تلك ، ودنونا من المدينة ، آذن بالرحيل فخرجت حين آذنوا بالرحيل ، فتبرزت لحاجتي حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني رجعت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فخرجت في التماسه فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي [ ص: 2421 ] فجعلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، وكن النساء إذ ذاك لم يهبلهن اللحم ، إنما تأكل إحدانا العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، وبعثوا الجمل ، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ؛ فجئت مبادرة لهم - أو قالت : منازلهم - وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي .

فبينما أنا كذلك في منزلي إذ غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل من وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه ، فخمرت وجهي بجلبابي ، - والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعت من كلامه غير استرجاعه - حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، ثم ركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة . وقد هلك من هلك من أهل الإفك . وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول .

فاشتكيت حين قدمت المدينة شهرا ، والناس يفيضون في قول الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أراه حين أشتكي ، إنما يدخل فيقول : "كيف تيكم" ثم ينصرف فذاك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بشيء ، حتى خرجت بعدما نقهت أنا وأم مسطح ، - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب ، وأمها ابنة أبي صخر بن عامر [ ص: 2422 ] خالة أبي بكر رضي الله عنه ، وابنها مسطح بن لبابة - فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح .

فقلت : بئسما قلت تسبين رجلا شهد بدرا . قالت : أو لم تسمعي ما قال ؟ ! قالت : قلت : فماذا ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك . فازددت مرضا على مرضي .

فلما رجعت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "كيف تيكم ؟" فقلت : تأذن لي فآتي أبوي ، وأنا حينئذ أريد أن أستقصي الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمه ، ماذا يتحدث الناس به ؟ ! قالت : يا بنية هوني عليك ، قل ما كانت امرأة وضيئة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها . قالت : قلت : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ؟ ! قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقى لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي عليه يستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله وبالود الذي لهم في نفسه ، فقال : والله يا رسول الله ما نعلم إلا خيرا ، ودعا بريرة ، فقال : "يا بريرة ، هل رأيت شيئا يريبك ؟" قالت : لا والذي بعثك بالحق ، إن رأيت أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله .

فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : "من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فو الله ما علمت على أهلي إلا [ ص: 2423 ] خيرا ، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" . فقام سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه ، إن كان من إخواننا من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا ما تأمرنا به . فقام سعد بن عبادة ، - وهو سيد الخزرج - فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، وقد كان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن استجهلته الحمية .

فقام أسيد بن الحضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين .

وتثاور الحيان - الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا ، والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فلم يزل يسكنهم حتى سكنوا .

فمكثت يومي ذاك أبكي لا يرقى لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان وأنا أبكي واستأذنت امرأة من الأنصار علي فأذنت لها ، فجلست تبكي معي .

قالت : فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم وجلس ، ولم يجلس قبل ذلك منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه شيء . فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس وقال : "أما بعد : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا أذنب ثم تاب تاب الله عليه" [ ص: 2424 ] فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنا جارية حديثة السن ولم أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت : إني - والله - أعلم أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم فصدقتم به ، ولئن قلت : إني بريئة - والله يعلم إني بريئة - لا تصدقونني ، فوالله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) .

قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وما كنت أرى أن الله عز وجل ينزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر من السماء ، ولكني كنت أرجو أن يري الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها .

فوالله ما رام النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، - وهو العرق - حين ينزل عليه الوحي ، وكان إذا أوحي إليه أخذه البرحاء حتى إنه لينحدر عليه مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل القرآن الذي ينزل عليه .

قالت : فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها [ ص: 2425 ] : "أما أنت يا عائشة فقد برأك الله عز وجل" .

قالت : فقلت : نحمد الله عز وجل . قالت أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل . فأنزل الله عز وجل : ( إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) إلى آخر الآيات العشر كلها .

فلما أنزل الله عز وجل هذا في براءتي ؛ قال أبو بكر رضي الله عنه ، وقد كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال في عائشة . فأنزل الله عز وجل ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) . . . إلى قوله تعالى ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) . فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي . .فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقالت : ما رأيت ولا علمت إلا خيرا ، أحمي سمعي وبصري . قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله عز وجل بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك من أهل الإفك .


قال الزهري : فهذا ما انتهى إلي من خبر هؤلاء الرهط من هذا الحديث .

[ ص: 2426 ] 1906 - وحدثنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الحلواني ، قال : حدثنا الهيثم بن خارجة قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن - وهو ابن يزيد بن جابر - قال : حدثنا عطاء الخراساني ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة ، حدثته . . وذكر الحديث ، بطوله ، نحوا منه .

1907 - وحدثنا أبو أحمد هارون بن يوسف ، قال : حدثنا ابن أبي عمر العدني ، قال : حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني ، قال : حدثنا معمر ، قال : حدثنا مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب .

قال ابن أبي عمر ، وحدثنا أيضا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، قال : حدثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص الليثي ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله عز وجل وذكر الحديث بطوله نحوا من الحديث الأول . [ ص: 2427 ]

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

فالحمد لله الذي بشر نبينا صلى الله عليه وسلم ببراءة عائشة رضي الله عنها زوجته في الدنيا والآخرة أم المؤمنين ، وليست بأم المنافقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية