صفحة جزء
ذكر إثبات الحجر على الحر البالغ المضيع لماله

واختلفوا في وجوب الحجر على الحر البالغ المضيع لماله .

فقال عامة علماء الأمصار من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر: يجب الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا. واحتج [ ص: 11 ] محتجهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وبأنه كل من يحفظ عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مذهبهم .

8383 - حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا أبو يوسف القاضي، عن هشام بن عروة ، عن أبيه: أن عليا جاء بعبد الله بن جعفر إلى عثمان فقال: احجر عليه. فقال عثمان: لا أرى ذلك. قال: فقال له علي: لكني أرى ذلك. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير بن العوام .

8384 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد قال: حدثني عفان، عن حماد بن زيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين قال: مر عثمان بن عفان بسبخة فقال: لمن هذه؟ قيل: لفلان، اشتراها عبد الله بن جعفر بستين ألفا. فقال: ما يسرني أنها لي بنعلي، ثم لقي علي بن أبي طالب ، فقال: ألا تأخذ على يد ابن أخيك وتحجر عليه، اشترى سبخة بستين ألفا ما يسرني أنها لي بنعلي .

8385 - وحدثنا علي، عن أبي عبيد قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا حجاج بن أرطأة ، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي ، عن [ ص: 12 ] ابن عباس أنه سئل عن الشيخ الكبير [ينكر] عقله الحجر عليه، قال: نعم .

8386 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عوف بن الحارث - وهو ابن أخي عائشة لأمها - أن عائشة حدثته أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو إعطاء أعطته: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها .

قال أبو بكر : ورواه الأوزاعي، عن الزهري ، عن الطفيل بن الحارث .

وقد روينا عن شريح أنه قال لرجل عرض بأن ابن أخيه يكثر الشراب: أمسك عليه ماله وأنفق عليه بالمعروف، وكان ابن أخيه قد خرجت لحيته . [ ص: 13 ]

قال أبو بكر : وممن رأى الحجر على السفيه والسفيهة المفسدين لأموالهما: مالك بن أنس ، وعثمان البتي، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، ويعقوب ، ومحمد .

وقالت طائفة: لا يحجر على الحر البالغ .

وروينا هذا القول عن ابن سيرين والنخعي .

وبه قال النعمان ، وزفر .

وقال ابن الحسن : قال النعمان : الحجر على الحر باطل إذا بلغ مبالغ الرجال، وله مال تركه أبوه له ميراثا، وإن باع بعضه، أو اشترى ببعضه شيئا فحابى في ذلك بما يتغابن الناس فيه أو بما لا يتغابنون فيه فذلك جائز عليه. وكذلك إن ذهب بعض ماله أو وهبه كله أو تصدق به، كان مفسدا لماله أو مصلحا .

وقال أبو حنيفة : ينبغي لوصيه وللقاضي إذا بلغ وهو فاسد لم يؤنس منه رشد أن يمنع ماله ويحال بينه وبينه، وهو مع ذلك إن باع أو أقر لإنسان جاز ما منع في ذلك. وقال: إذا بلغ الغلام خمسة وعشرين سنة فأكملها وهو فاسد لم يؤنس منه رشد دفع إليه ماله ولم يحبس عليه، [ ص: 14 ] أرأيت لو بلغ سبعين سنة أو ثمانين وولد له أولاد فصاروا قضاة أكان يحجر عليه؟! فأستقبح أن أحجر على هذا .

قال أبو بكر : وقد احتج بعض من يوجب الحجر على الحر البالغ بأن قال: يمنع اليتامى من أموالهم حتى يبلغوا النكاح ويؤنس منهم الرشد .

واختلفوا في الرشد ما هو؟ فلا يجوز أن يكون المال الممنوع بالإجماع مطلقا حتى يوجب إطلاقه كتاب أو سنة أو إجماع، وقد ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كره لنا إضاعة المال" .

8387 - حدثنا يحيى بن محمد قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يزيد، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" .

قال: وما كره الله لنا فمحرم علينا فعله، فالواجب أن يمنع المضيع لماله من إضاعته ويحال بينه وبينه، وقد حجر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل لضعف ومنعه من البيع، ثم قال له إذ ذكر أنه لا يصبر عن البيع: "إذا بايعت فقل: لا خلابة"، فأجاز له البيع بعد نهيه عنه ومنع من خديعته، وقد منع الله من الفساد، وخبر أنه لا يحب الفساد، [ ص: 15 ] فالمفسد لماله داخل في النهي، وهو ممنوع منه، وقد أجمعوا على أن المغلوب على عقله ممنوع من ماله بجهله بحفظه، فالصحيح العاقل ما قد نهى عنه أولى أن يمنع من الفساد، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة أن ينخلع من ماله كله وقال: "يجزئك من ذلك الثلث" .

وقد نهى الله عن التبذير فقال: ( ولا تبذر تبذيرا ) ، وقال في قصة شعيب: ( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، وقال: ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) .

فقد خبر - جل ذكره - أن أنبياءه قد منعوا أنفسهم من العبث والإضاعة للأموال، والأنبياء لا تأمر إلا بأمر الله .

قال أبو بكر : وقول النعمان قول لا معنى له، لأنه منعه من ماله إذا بلغ لعلة الفساد وأطلق له المال في الوقت الثاني وهو ابن خمس وعشرين سنة، والعلة التي منعت من المال في أول ما بلغ موجودة فيه حيث أمر بدفع ماله إليه، فإن وجب دفع ماله إليه وهو مفسد، فلا معنى لمنعه منه بعد بلوغه، وإن لم يجز دفع ماله إليه، لأنه مفسد فقد ترك هذا حيث أمر بدفع ماله إليه في الحال الثاني . [ ص: 16 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية