صفحة جزء
المستودع يخالف ما أمر به

واختلفوا في الرجل يودع الرجل الوديعة ، ويأمره أن يجعلها في بيت بعينه ، أو في دار بعينها ، ونهى أن يجعلها في دار له أخرى وفي بيت له آخر فجعلها المودع في الدار التي نهاه أن يجعلها فيها ، أو في البيت الذي نهاه أن يجعلها فيه .

ففي هذا قولان : أحدهما : أن لا شيء على المودع ، لأنه قصد بها فعل الحرز وليس يجوز أن يضمن ما لم (يخن) ولم يتعد ، وقصد الحرز .

وفعل ما فيه الاحتياط لرب الشيء . هذا قول قاله بعض أهل النظر .

والقول الثاني : أنه إذا أمر أن يجعلها في دار ، فجعلها في دار أخرى أنه ضامن . وإن كان بيتان في دار فأمره أن يجعلها في أحدهما ونهاه أن يجعلها في [البيت] الآخر فتلفت فلا ضمان عليه . هذا قول النعمان ومحمد بن الحسن ، وقال القائل بالقول الأول : ليس يخلو الضمان من أن يجب إذا خالف ما أمر به أو لا يجب إلا بحجة من كتاب أو سنة .

فإن كان يجب بالخلاف وجب الضمان على من أمر أن يجعلها في بيت فجعلها في بيت آخر ، وقد زعم أن لا شيء عليه ولا على من قيل له : اجعلها في كيسك ، فجعلها في صندوقه ، فإن أسقط الضمان عمن جعلها في صندوقه وقد أمر أن يجعلها في كيسه ، لأنه قصد الحرز . [ ص: 341 ]

كذلك لا شيء على من أمر أن يجعلها في بيت فجعلها في بيت آخر ، لأنه قصد الحرز .

واختلفوا في المودع يقول للمستودع : لا تخرجها من البلد وضعها في بيتك ، فأخرجها فضاعت .

ففي قول الشافعي وأصحاب الرأي : يضمن ، إلا أن تكون ضرورة ، فإن أخرجها لضرورة خوف أو ما أشبهه لم يضمن في قول الشافعي . وكذلك إذا انتقل للسيل وللنار قال : ولو اختلفا في السيل والنار فإن كان لذلك أثر بعين يرى أو أثر يدل ، فالقول قول المستودع ، وإن لم يكن ذلك فالقول قول المستودع . ومتى قلت القول قوله فعليه اليمين ، إن شاء يستحلفه . هذا كله قول الشافعي .

وقال أصحاب الرأي : إن انتقل من الكوفة إلى البصرة ، أو إلى غيرها لشيء لم يكن له بد فهلكت : فلا ضمان عليه ، لأن هذا حال عذر .

واختلفوا في الحريق يقع في البيت ، ويمكن المودع إخراج الوديعة من مكانها فلم يفعل . فقال قائل : يضمن ، لأنه كأنه أتلفه ، لأنه أمر بحفظه . وهذا مضيع . وقد مال إلى هذا القول بعض أصحابنا ، وهو يشبه مذهب الشافعي ، لأنه قال : إذا استودع دواب ولم يعلفها في مدة تتلف الدواب في مثلها إذا لم تعلف ضمن .

وقال آخر : لا ضمان عليه ، لأن النار أتلفتها . قال : وهذا كالرجل [ ص: 342 ] المسلم تحيط به النار ورجل مسلم قادر على إخراجه ، ولم يفعل ، فهو عاص ولا عقل عليه ولا قود . وإذا أمر رب الوديعة المودع أن يحرقها بالنار ، أو يلقيها في البحر ففعل ، ففيها قولان : أحدهما : أن لا شيء عليه ، لأنه فعله بأمره .

كان الشافعي يقول : إذا أمر الرجل الرجل أن يقطع رأس مملوكه فقطعه فعلى القاطع عتق رقبة ولا قود عليه . قال : وإذا أمره بذلك في دابة له ففعله فلا قيمة عليه ، لأنه أتلفها بإذن مالكها ، فقياس هذا أن لا غرم على من طرح المال في البحر بإذن مالكه على أن هذا ربما كان صلاحا للمسلمين في بعض الأوقات في البحر .

وقال الآخر : هو ضامن ، لأن المرء ممنوع من إتلاف المال في غير حال الضرورة ، لأن ذلك محرم على رب المال ، وفاعله عاص يجب أن يحجر عليه ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . فإذا أمره بما ليس له ، فأمره وسكوته سيان . قال : ولو كان المودع لا ضمان عليه لوجب أن يكون المرء المسلم إذا أمر أخاه المسلم أن يضرب عنقه ففعل أن لا يكون على القاتل شيء ، لأنه فعل ما أمره به .

وقد أجمع أهل العلم على أن هذا قاتل ظالم وقد منع من مال المسلم ، ومن دمه فالدم والمال في معنى واحد في التحريم ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تحريم الدماء وتحريم الأموال مودعا بذلك أمته في خطبته في حجة الوداع . [ ص: 343 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية