صفحة جزء
مسائل من كتاب العارية

قال أبو بكر : وإذا أعار الرجل [الرجل] الشيء إلى أجل معلوم فقبضه ، ثم أراد المعير أن يرجع فيأخذ ما أعاره قبل مضي الوقت [ففيها قولان ، أحدهما : أن ليس له ذلك والعارية ثابتة إلى الوقت] الذي أعطيها . هذا قول مالك ، وفي قول الشافعي : له أن يرجع فيها متى أحب .

واختلفوا في الرجل يعير الرجل الدابة فاختلفا . فقال : أعرتنيها إلى [ ص: 365 ] بلد كذا ، وقال بل أعرتك إلى بلد كذا .

فكان مالك يقول : إن كان يشبه ما قال المستعير فعليه اليمين .

وفي قول الشافعي : القول قول المعير مع يمينه .

وقال أصحاب الرأي : القول قول المعير .

واختلفوا في الرجل يستعير من الرجل الثوب فيعيره غيره .

فقالت طائفة : إذا استعاره ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن ، وإن استعاره ولم يسم من يلبسه فأعاره غيره فلا ضمان عليه .

هذا قول أصحاب الرأي .

وفيه قول ثان : وهو أنه ضامن ، لأن المتعارف من أخلاق الناس أنه لا يعير غيره إذا استعاره هو ، فإن أعاره غيره فقد ضمن . هكذا قال بعض أهل النظر .

وقال مالك : إذا استعار دابة فأعارها رجلا آخر إذا لم يفعل بها إلا مثل ما كان يفعل الذي أعيرها فلا شيء عليه .

واختلفوا في الرجل يستعير من الرجل الدنانير ، فكان مالك يقول : هذا ضامن . ولم يجعله من وجه العارية ، وقال أصحاب الرأي في الدنانير والدراهم والفلوس يستعيرها الرجل : هو والقرض [ ص: 366 ] سواء . وأنكر آخر أن تكون الدراهم عارية ، وقال : لا يجوز أن يشتري بها شيئا . قال : وهذا من قولهم فاسد ، لأن العارية حكمها غير حكم القرض ، وهذا لا يجوز بحال .

واختلفوا في الرجل يستعير من الرجل المتاع ويقبضه ويصيره إلى منزله ثم يستغني عنه ، فكان الثوري يقول : على الذي أكرى أو أعار أن يأخذه من عنده وليس عليه أن يحمله إليه .

وقال أحمد وإسحاق : عليه أن يرده من حيث أخذه .

واختلفوا في العبد المأذون له في التجارة يعير الشيء ، فقال ابن القاسم - صاحب مالك - ليس له أن يعير إلا بإذن سيده ، وقال مالك : لا يعجبني أن يعق العبد عن ولده إلا بإذن سيده .

قال أبو بكر : وهذا على مذهب الشافعي . وقال أصحاب الرأي : لا نرى بعارية العبد - إذا كان يشتري ويبيع أن يؤدي الغلة - بأسا ، وإن دعا رجلا إلى طعام له أو أهدي إليه هدية فلا بأس أن يجيبه ، ويأكل من هديته .

قال أبو بكر : ولا يجوز في قول الشافعي أن يأكل من طعامه ، ولا يقبل هديته إلا بإذن سيده . وإذا استعار رجل من رجل ثوبا ليلبسه ثم جحده إياه وأقام رب الثوب البينة على ذلك وقد هلك الثوب ، فهو ضامن للقيمة في قول الشافعي وأصحب الرأي : فأما تضمين [ ص: 367 ] الشافعي إياه فلأنه يرى العارية مضمونة ، وأما تضمين أصحاب الرأي القيمة فلجحوده ، وإذا استعار رجل من رجل دابة هوجاء فأزلقت من غير أن يعنف بها ، فلا ضمان عليه في قول من لا يضمن العارية .

فإن ضربها ففقأ عينها أو كبحها فعطبت فهو ضامن لها . وكذلك قال أصحاب الرأي .

وفيه قول ثان : وهو أن لا ضمان عليه إذا كبحها في حال جائز له أن يكبحها فيه ، لأن هذا مما يفعله الناس عند الحاجة إليه . وإذا استعار رجل من رجل سلاحا ، على أن يقاتل به ، وكان السلاح سيفا أو رمحا فضرب بالسيف فانقطع [نصفين] أو ضرب بالرمح فانكسر فلا ضمان عليه في ذلك . وهذا قول أصحاب الرأي ، وإذا أرسل الرجل رسولا ليستعير له دابة من رجل إلى التنعيم . فقال له الرسول : إن فلانا يسألك أن تعيره دابتك إلى عرفة فدفعها إليه على ذلك وبدا للمرسل الراكب أن يركبها (إلى عرفة فتلفت تحته فلا ضمان عليه ، لأنه مأذون له فيه ، وإن ركبها إلى التنعيم فعطبت ضمن ، لأنه) ركبها إلى الموضع الذي لم يؤذن له فيه .

قال أبو بكر : وفيه قول ثان : وهو أن لا شيء عليه في ركوبه إلى التنعيم ، لأنه قد أذن له في مثل هذه المسافة وليس أحد الطريقين بأصعب من الآخر فيكون ضامنا . وإذا قال : أعرتني دابتك فركبتها إلى مكان كذا بإذنك ، وقال رب الدابة : بل أكريتكها إلى ذلك المكان ، [ ص: 368 ] فالقول قول الراكب مع يمينه في قول الشافعي ، وأصحاب الرأي ، وكذلك قال الأوزاعي إذا لم تكن بينة ، وكذلك قال بعض أهل النظر .

قال : لأن ربها يدعي عليه الإجارة معترفا بأنه لم يتعد في ركوبها .

قال أبو بكر : وأصح من ذلك على مذهب الشافعي أن عليه كراء المثل بعد اليمين ، وقد قاله في موضع : وإذا استعار رجل من رجل دابة على أنه يذهب بها حيث شاء ، ولم يسم مكانا ولا وقتا ، ولا ما يحمل عليها ، فله أن يركبها في المصر الذي أعاره إياها فيه ، وليس له أن يؤاجرها ، وهذا على مذهب أصحاب الرأي فإن آجرها من رجل فعليه أن يتصدق بالغلة في قولهم ، وقال قائل : ليس تخلو هذه الغلة أن تكون ملكا له أو لا يملكها ، فإن لم يملكها ، فغير جائز أن يتصدق بما لا يملك ، وإن تكن له فليس عليه أن يتصدق بماله ، والذي قال الكوفي لا معنى له ، وقال قائل : له أن يركبها في المصر الذي هو فيه ، وفي غيره ، وقد حكى ابن القاسم مذهب مالك .

فقال : ينظر في عاريته ، فإن كان [وجه] عاريته إنما هو إلى الموضع الذي ركب إليه ، وإلا فهو ضامن .

وقال مالك في رجل اكترى دابة من رجل ليحمل عليها أو يركبها وأكراها من غيره فعطبت . قال : إن كان أكراها في مثل ما تكراها وكان [ ص: 369 ] الذي أكراه أمينا لا بأس به ، فلا ضمان عليه .

قال أبو بكر : وهذا يضمن في قول أصحاب الرأي ، وإذا استعار دابة من رجل على أن يحمل عليها أربعة أمداد من شعير أو أرز أو سمسم .

فقالت طائفة : أما [في] القياس فهو ضامن ، ولكنا نستحسن أن لا نضمنه .

هذا قول أصحاب الرأي . وقال قائل : يضمن ، لأنه خالف فحمل عليها ما لم يؤذن له به .

قال أبو بكر : وزعم ابن الحسن أنه إذا أذن له أن يحمل عليها حنطة فحمل عليها آجرا أو لبنا فعطبت ، أنه ضامن وعلته في تضمينه إياه أنه حمل عليها غير ما سمى له ، فكذلك قد حمل في المسألة قبلها عليها غير ما سمى له ، وإذا أقام الرجل بينته على أرض ونخل أنها له وقد أصاب الذي في يديه من غلة النخل والأرض .

فإن النعمان ومحمدا ويعقوب كانوا يقولون : الذي كانت في يديه ضامن لما أخذ من (التمر) ، وكان ابن أبي ليلى يقول : لا ضمان عليه في ذلك . وقال الشافعي : يضمن ثمنها ، وما أصاب منها من شيء فدفعه إلى صاحب البينة ، فإن كانت الأرض تزرع فزرعها فالزرع للزارع ، وعليه كراء مثل الأرض ، وإن كان لم يزرعها فعليه كراء مثل الأرض .

قال أبو بكر : وإذا غصب الرجل الرجل الأرض فزرعها : [ ص: 370 ] فقال النعمان : الزرع للذي كان في يديه ، وهو ضامن لما نقص الأرض ، ويتصدق بالفضل . وبه قال محمد ، وكان ابن أبي ليلى يقول : لا يتصدق بشيء ، وليس عليه ضمان ، وقال يعقوب : هو ضامن لما نقص الأرض ، ولا يتصدق بشيء ، وقال قائل : هو ضامن لما نقص الأرض ولا يتصدق ، وقال قائل : هو ضامن لما نقصها ، لأنه متعد ، إذا كان عالما بالنهي ، وإن كان جاهلا فلا مأثم عليه ، والزرع له ، لأنه نما من بذره .

قال أبو بكر : وإذا أخذ رجل أرض رجل إجارة سنة وعملها أو أقام فيها سنتين . فإن النعمان كان يقول : هو ضامن لما نقصت الأرض في السنة الثانية ، ويتصدق بالفضل ، ويعطى أجر السنة الأولى . وبه يأخذ أبو يوسف ومحمد ، وكان ابن أبي ليلى يقول : عليه أجر مثلها في السنة الثانية ، وكان الشافعي يقول : عليه كراؤها الذي تشارطها عليه في السنة الأولى ، وكراء مثلها في السنة الثانية ، [وإن حدث بها نقص في السنة الثانية] كان ضامنا لها . وهكذا الدور ، والعبيد ، والدواب ، وكل شيء استؤجر ، وإذا وجد الرجل كنزا قديما في أرض رجل ، أو داره . فإن النعمان : كان يقول : هو لرب الدار ، ويخمس ، وليس للذي وجده منه شيء ، وهو قول محمد . وقال ابن أبي ليلى : هو [للذي] وجده ، ويخمس وبه قال يعقوب وأبو ثور . وقال الشافعي : الكنز لرب الدار وفيه الخمس . [ ص: 371 ]

[ ص: 372 ] [ ص: 373 ] بسم الله الرحمن الرحيم

التالي السابق


الخدمات العلمية