صفحة جزء
باب اللعان.

قال الله سبحانه وتعالى: ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) .

الآيات.

2366 - أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي، أخبره أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم، أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله، فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي عن ذلك يا عاصم، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 251 ] المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر، فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فجاء عويمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها".

فقال سهل، فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين.

هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك. [ ص: 252 ] .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم.

ح وأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، ومحمد بن أحمد العارف، قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، مثل معناه، وزاد: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروها فإن جاءت به أسحم أدعج عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة، فلا أراه إلا كاذبا"، فجاءت به على النعت المكروه.

هذا حديث متفق على صحته.

الأسحم : الشديد السواد ، يقال : غراب أسحم ، أي شديد السواد ، والوحرة : دويبة شبه الوزغة تلزق بالأرض ، جمعها وحر ، ومنه وحر الصدر ، وهو الحقد والغيظ ، سمي به لتشبثه بالقلب ، ويقال : فلان وحر الصدر ، إذا دبت العداوة في قلبه كدبيب الوحر . [ ص: 253 ] .

وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم مسألة عاصم ، لأنه كان يسأل لغيره ، ولم يكن به إليه حاجة ، ولما فيه من هتك الحرمة ، فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية إيثارا لستر العورات .

قال الإمام رحمه الله : وحكم هذا المسألة أنه من رمى إنسانا بالزنى ، فإن كان المقذوف محصنا ، يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حرا ، وإن كان عبدا ، فجلد أربعين ، قال الله سبحانه وتعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) ، وإن كان المقذوف غير محصن ، فعلى قاذفه التعزير .

وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة من الزنى ، حتى إن من زنى في أول بلوغه مرة ، ثم تاب ، وحسنت حالته ، وامتد عمره ، فقذفه قاذف لا حد عليه ، ولا حد في النسبة إلى غير الزنى من الفواحش ، إنما فيه التعزير ، سئل علي عن قول الرجل للرجل : يا فاجر ، يا خبيث ، يا فاسق ، قال : هن فواحش ، فيهن تعزير ، وليس فيهن حد .

وكان الشعبي يقول في الرجل إذا دخل بالمرأة ، فقال : لم أجدها عذراء : إن عليه الحد .

وكان إبراهيم النخعي لا يرى عليه الحد ، ويقول : العذرة تذهب من النزوة ومن التعنيس .

قال الإمام : وهذا قول العلماء .

ولا فرق في موجب القذف بين من يقذف أجنبيا ، أو زوجته ، غير أن المخرج منهما مختلف ، فإذا قذف أجنبيا ، لا يسقط الحد عنه إلا بالإقرار من جهة المقذوف ، أو إقامة أربعة من الشهداء على زناه ، وإذا قذف زوجته ، فلا يسقط إلا بأحد هذين ، أو باللعان ، وعند أصحاب الرأي لا حد على من قذف زوجته ، إنما موجبه اللعان ، والشرع جعل اللعان في حق الزوج بمنزلة الشهادة ، فقال الله جل ذكره : ( والذين [ ص: 254 ] يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) ، فثبت أن اللعان حجة القاذف على صدقه كالبينة ، ولو شهد الزوج على زوجته بالزنى مع ثلاثة ، فشهادة الزوج مردودة عند بعض أهل العلم ، وهو قاذف عليه الحد إلا أن يلاعن ، وهو قول النخعي ، وبه قال الشافعي ، وذهب قوم إلى أن شهادة الزوج مقبولة ، وعليها الحد ، وهو قول الشعبي ، وأصحاب الرأي ، ومن جعل الزوج قاذفا بهذه الشهادة ، قال : حكم الثلاثة الذين شهدوا حكم شهود الزنى إذا لم يكملوا أربعة .

واختلف فيهم أهل العلم ، فذهب أكثرهم إلى أنهم قذفة ، عليهم حد القذف ، لما روي عن عمر أنه شهد عنده ثلاثة على رجل بالزنى ، ولم يكمل الرابع شهادته ، فجلد الثلاثة ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأظهر قولي الشافعي ، وذهب بعضهم إلى أنهم لا يحدون ، لأنهم جاؤوا مجيء الشهود ، ولو شهد أربع على زنى امرأة ، وأقامت المرأة أربع نسوة على أنها عذراء ، لا حد عليها ، لأن عذرتها تنفي زناها ، ولا حد على قاذفها لقيام البينة على زناها ، وقد يتصور عود العذرة .

قال الشعبي : ما كنت لأقيم الحد على امرأة عليها من الله خاتم ، وعنه رواية أخرى : أن الحد يقام عليها .

ويجري اللعان بين الزوجين الرقيقين والذميين ، كما يجري بين الحرين المسلمين عند أكثر أهل العلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، وبه قال ربيعة ، ومالك ، والليث ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .

وجملته أن من صح يمينه ، صح لعانه ، وذهب بعضهم إلى أنه لا يصح اللعان إلا ممن هو من أهل الشهادة ، وهو قول حماد ، والزهري ، والأوزاعي ، وأصحاب الرأي ، حتى قالوا : لو [ ص: 255 ] كان أحد الزوجين ذميا ، أو رقيقا ، أو محدودا في قذف ، فلا لعان .

واتفقوا على جواز لعان الفاسق ، والأعمى ، وفي قول سهل : " فتلاعنا وأنا مع الناس" .

دليل على أن اللعان ينبغي أن يكون بمحضر جماعة من المؤمنين ، وليس ذلك مما يستر ، كما أن الحد يقام بمحضر جماعة من الناس ، ليكون أبلغ في الزجر ، قال الله سبحانه وتعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .

ويلاعن في المسجد ، فقد روي في حديث سهل بن سعد : " فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد" .

وقوله : " فطلقها ثلاثا" فيه دليل على أن الجمع بين الطلقات الثلاث لا يكون بدعة ، إذ لو كان بدعة ، لأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يكن يقع في هذا الموضع لوقوع الفرقة باللعان ، ولكن الرجل كان جاهلا بالحكم ، فلو لم يكن جائزا ، لمنعه عنه حتى يتبين له الحكم ، فلا يجترئ عليه في الموضع الذي يقع .

واختلف أهل العلم في الوقت الذي تقع فيه الفرقة بين الزوجين في اللعان ، فذهب قوم إلى أنه تقع بفراغ الزوج من اللعان ، وإليه ذهب الشافعي ، وذهب جماعة إلى أنه يقع بتلاعنهما جميعا ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مالك ، والأوزاعي ، وأحمد ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه يقع بتفريق القاضي بينهما بعد تلاعنهما ، حتى لو طلقها قبل قضاء القاضي يقع ، وذهب عثمان البتي إلى أن الفرقة لا تقع وفراق العجلاني امرأته كان بالطلاق . [ ص: 256 ] .

وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم حتى لا تستحق المرأة نفقة العدة ، ولا السكنى ، وإليه ذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة : اللعان تطليقة بائنة ، ولها السكنى والنفقة في العدة ، ويحتج من لا يوقع الفرقة بنفس اللعان بتطليق العجلاني المرأة بعد اللعان ، فلو كانت الفرقة واقعة ، لم يكن للتطليق معنى ، ومن أوقع باللعان الفرقة ، حمل ذلك منه على الجهل بالحكم ، أو يحتمل أنه لما قيل له : لا سبيل لك عليها .

وجد من ذلك في نفسه ، فقال : " كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا" .

يريد بذلك تأكيد تلك الفرقة ، يدل عليه أن الفرقة لو لم تكن واقعة ، لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثا ، وأجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثا تحل له بعد زوج آخر .

وقول ابن شهاب : " فكانت تلك سنة المتلاعنين" .

يريد أنهما لا يجتمعان بعد اللعان .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " إن جاءت به أسحم أدعج لا أراه إلا قد صدق" .

دليل على أن التحلية بالنعوت المكروهة إذا أريد بها التعريف ، لا تكون غيبة يأثم بها قائلها ، وفيه دليل على جواز الاستدلال بالشبه ، وفيه بيان أن مع جواز الاستدلال به لا يحكم به إذا كان هناك ما هو أقوى منه في الدلالة على ضد موجبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الحد عليها بالشبه لما جاءت به على النعت المكروه ، لوجود الفراش ، كما لم يعتبر الشبه في ولد وليدة زمعة لوجود ما هو أقوى ، وهو الفراش .

وفيه دليل على أن المرأة كانت حاملا ، وأن اللعان وقع على نفي الحمل ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، أن اللعان على نفي الحمل جائز ، وذهب أصحاب الرأي [ ص: 257 ] إلى أن اللعان على نفي الحمل لا يجوز ، فإن فعل صح ، تعلق به أحكامه ، غير أن الولد يلزمه لزوما لا يمكنه نفيه بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية