صفحة جزء
2749 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، قال: وقال موسى بن مسعود، نا سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: " صالح النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن [ ص: 160 ] يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف، والقوس ونحوه، فجاء أبو جندل يحجل في قيوده، فرده إليهم ".

هذا حديث متفق عليه، أخرجه مسلم من أوجه، عن أبي إسحاق.

قال الإمام : قد جاء في التفسير الجلبان في الحديث ، قال : فسألته ما جلبان السلاح ؟ قال : القراب بما فيها ، وإنما شرط هذا ليكون أمارة للسلم ، فلا يظن أنهم يدخلونها قهرا ، قال الأزهري : القراب : غمد السيف ، والجلبان : شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا ، ويطرح فيه الراكب سوطه ، وأداته ، ويعلقه من آخرة الرحل ، أو واسطته .

قال شمر : كأن اشتقاقه من الجلبة ، وهي الجلدة التي تجعل على القتب ، والجلدة التي تغشي التميمة ، لأنها كالغشاء للقراب .

قال الخطابي : أكثر المحدثين يرويه : جلبان ، بضم اللام مشددة الباء ، وزعم بعض أهل اللغة ، أنه إنما سمي بذلك لخفائه ، قال : ويحتمل أن يكون جلبان ساكنة اللام غير مشددة الباء جمع جلب ، وقد يروى : إلا بجلب السلاح ، وجلب السلاح نفسه كجلب الرجل ، إنما هو خشب الرحل ، وأحناؤه من غير أغشيته ، كأنه أراد نفس السلاح ، وهو السيف خاصة من غير أن يكون معه أدوات الحرب ، ليكون علامة الأمن .

والحجل : مشي المقيد . [ ص: 161 ] .

قال الإمام : قد شرط النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية شروطا لضعف حال المسلمين ، وعجزهم في الظاهر عن مقاومة الكفار ، وخوفهم الغلبة منهم لا يجوز اليوم شيء من ذلك لقوة أهل الإسلام ، وغلبة أمره ، وظهور حكمه ، والحمد لله ، إلا في موضع قريب من دار الكفر يخاف أهل الإسلام منهم على أنفسهم .

منها أنه هادنهم عشر سنين ، واختلف أهل العلم في مقدار المدة التي يجوز أن يهادن الكفار إليها عند ضعف أهل الإسلام ، فذهب الشافعي إلى أن أقصاها عشر سنين لا يجوز أن يجاوزها ، لأن الله سبحانه وتعالى أمر بقتال الكفار في عموم الأوقات ، فلا يخرج منها إلا القدر الذي استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وقال قوم : لا يجوز أكثر من أربع سنين ، وقال قوم : ثلاث سنين ، لأن الصلح لم يبق بينهم أكثر من ثلاث سنين ، ثم إن المشركين نقضوا العهد ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكان الفتح .

وقال بعضهم : ليس لذلك حد معلوم ، وهو إلى الإمام يفعل على حسب ما يرى من المصلحة ، أما في حال قوة أهل الإسلام ، لا يجوز أن يهادنهم سنة بلا جزية ، ويجوز أربعة أشهر ، لقوله سبحانه وتعالى : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان بعد فتح مكة تسيير أربعة أشهر ، وفي أكثر من أربعة أشهر إلى سنة قولان ، الأصح : أن لا يجوز ، ولو هادنهم إلى غير مدة على أنه متى بدا له نقض العهد ، فجائز .

ومنها أنه عليه السلام شرط : " من أتانا منهم نرده عليهم ، ومن أتاهم منا لا يردونه " ، ثم رد أبا جندل بن سهيل إلى أبيه ، ورد أبا بصير [ ص: 162 ] إلى قومه ، ولم يرد النساء .

واختلف أهل العلم في أن الصلح : هل كان وقع على رد النساء أم لا ؟ على قولين ، أحدهما : أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا ، لما روينا أنه : " لا يأتيك منا أحد إلا رددته " ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخا بقوله سبحانه وتعالى : ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) ، ومن ذهب إلى هذا ، أجاز نسخ السنة بالكتاب . [ ص: 163 ] .

والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء ، لأنه يروى : على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته ، لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى على الرجل ذلك ، لقوته وهدايته إلى التقية ، فلم يكن في رده إليهم إسلاما له للهلاك ، لتيسر سبيل الخلاص عليه .

وإذا احتاج الإمام إلى مثل هذا الشرط عند ضعف أهل الإسلام ، فلا يجوز أن يصالحهم على رد النساء ، وإذا صالحهم على رد الرجال ، ثم جاء في طلبه غير عشيرته لا يجوز رده ، وإن جاء في طلبه بعض عشيرته ، رده ، لأنه لا يخشى عليه ممن هو من عشيرته أن يقتله ، أو يقصده بسوء ، بل يذب عنه من يقصده لشفقته ، وقرابته .

وعلى هذا الوجه كان رد أبي جندل ، وأبي بصير ، فإنه رد أبا جندل إلى أبيه ، وأبا بصير إلى عشيرته الذين يقومون بالذب عنه ، ورعاية جانبه .

وروي عن أبي رافع ، قال : بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيته ، ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : والله لا أرجع إليهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن ، فارجع " . [ ص: 164 ] .

قوله : " لا أخيس بالعهد " ، يقال : خاس فلان وعده ، أي : أخلفه ، وخاس بالعهد : إذا نقضه .

ثم إن الله سبحانه وتعالى كما منع رد النساء إليهم ، أمر برد ما أنفق الأزواج عليهن إليهم ، فقال جل ذكره : ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) ، والمراد من النفقة : الصداق .

واختلف أهل العلم في أنه هل يجب العمل به اليوم إذا شرطه في معاقدة المشركين ؟ فقال قوم " لا يجب ذلك ، وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، وبه قال الثوري ، وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا ، يروى ذلك أيضا عن مجاهد ، وهو القول الآخر للشافعي ، قال : إذا جاءت امرأة حرة من أهل الهدنة مسلمة ، فإن جاء في طلبها غير زوجها ، فلا يعطى إليه شيء ، وإن جاء زوجها في طلبها ، فإن لم يكن دفع صداقها ، فلا يعطى شيئا ، وإن كان دفع صداقها إليها ، رد إليه من بيت المال ، ولو جاء عبد منهم مسلما ، فقد عتق ، ولا يرد إليهم ، فإن جاء سيده في طلبه ، دفع إليه قيمته .

وقوله سبحانه وتعالى : ( واسألوا ما أنفقتم ) ، أي : فأسألوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم إلى المشركين ما أنفقتم عليهن من الصداق ممن تزوجهن منهم ، ( وليسألوا ) يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات ما أنفقوا من المهر ، فلما نزلت الآية ، أقر المؤمنون بحكم الله ، وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون ذلك فأنزل الله عز وجل : ( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم ) ، معناه : إن مضت امرأة منكم إليهم مرتدة ، فعاقبتم ، أي : أصبتم منهم عقبى ، وهي الغنيمة ، وظفرتم [ ص: 165 ] وقرئ : ( فعقبتم ) (والتعقيب : غزوة بعد غزوة) ، ( فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ) ، من مهورهن من الغنائم التي صارت في أيديكم .

وروي عن ربعي بن حراش ، عن علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، قال : خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح ، فكتب إليهم مواليهم ، فقال : " هم عتقاء الله " ، وأبى أن يردهم .

قال الإمام : فيه بيان أن عبيد أهل الحرب إذا خرجوا إلى دار الإسلام مسلمين ، فهم أحرار ، ولا يجب رد قيمهم ، فأما إذا خرج إلينا كافر وفي يده عبد له ، فأسلما قبل أن يقدر عليهما ، فملك السيد مستقر على عبده كما كان ، ولو أن العبد غلب سيده في دار الحرب وقهره ، ثم خرجا إلينا مسلمين ، ويد العبد ثابتة على سيده ، كان السيد مملوكا ، والمملوك مالكا ، ومن هاجر إلينا مسلما من أهل الحرب ، فقد أحرز جميع أمواله وأولاده الصغار ، سواء كانوا في دار الإسلام ، أو في دار الحرب ، عقارا كان ماله ، أو منقولا .

حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة فأسلم ابنا سعية : ثعلبة ، وأسيد ، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما [ ص: 166 ] الصغار .

وكذلك لو دخل مسلم دار الحرب ، فاشترى منهم فيها عقارا ، ثم ظهر عليها المسلمون ، كان ذلك للمشتري .

وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غنيمة ، واتفقوا على أنه لو اشترى منقولا لا يغنم .

وإذا هادن الإمام قوما ، فليس له أن يسير إليهم قبل انقضاء المدة ، فيحل بساحتهم ، حتى إذا انقضت المدة ، أغار عليهم ، روي عن سليم بن عامر ، قال : كان بين معاوية ، وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فإذا رجل على دابة ، أو فرس ، وهو يقول : الله أكبر وفاء لا غدر ، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " .

فرجع معاوية .


ومعنى قوله : " أو ينبذ إليهم على سواء " ، أي : يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم ، وأن الصلح الذي كان قد ارتفع ، فيكون الفريقان في علم ذلك على السواء ، ويشبه أن يكون إنما كره عمرو بن عبسة ذلك من أجل أنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه ، فقد صارت مدة مسيره [ ص: 167 ] بعد انقضاء المدة كالمشروط مع المدة المضروبة في أن لا يغزوهم فيها ، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة ، كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه ، فعد ذلك عمرو غدرا ، والله أعلم .

وإن نقض أهل الهدنة عهدهم ، له أن يسير إليهم على غفلة منهم ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ، وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد ، قال الله سبحانه وتعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) ، ومن دخل إلينا رسولا ، فله الأمان حتى يؤدي الرسالة ، ويرجع إلى مأمنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن النواحة : " لولا أنك رسول ، لضربت عنقك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية