صفحة جزء
[ 120 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا علي بن محمد المروزي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي ، حدثنا يحيى بن معاذ قال : " جملة التوحيد في كلمة واحدة ، وهي أن لا تتصور في وهمك شيئا إلا واعتقدت أن الله عز وجل مالكه من جميع الجهات " .

قال البيهقي رحمه الله تعالى : " فإن قال قائل : وأين الدليل على أنه سبحانه موجود ؟ [ ص: 264 ]

قيل : قد بينا أنه أوجد العالم وأحدثه ، والفعل لا يصح وقوعه إلا من ذوي قدرة . والقدرة لا تقوم بنفسها فوجب أنها تقوم بقادر موجود .

ولأن استحالة وقوع الفعل من معدوم كاستحالة وقوعه لا من فاعل ، فلما استحال فعل لا من فاعل استحال فعل من معدوم ، وفي ذلك دليل على وجوده ، فإن قال قائل : وما الدليل على أنه سبحانه قديم لم يزل ؟ قيل : قد ثبت أنه موجود ، ولو كان محدثا لتعلق بغيره لا إلى نهاية ، فالموجود لا ينفك من أن يكون قديما ، أو محدثا ، فلما فسد كونه محدثا ثبت أنه قديم .

وإن شئت قلت : قد بينا احتياج المحدثات إلى مقدم يقدم ما تقدم منها ، ومؤخر يؤخر ما تأخر منها ، ومخصص يخصص بعضها ببعض ، الهيئات دون بعض ، فلو كان الذي يفعل ذلك بها مشاركا لها في الحدوث لشاركها في الحاجة إلى المقدم ، والمؤخر والمخصص ، ولو كان بهذا الوصف لاقتضى كل محدثا قبله ، ويستحيل وجود محدثات ، واحد قبل واحد لا إلى أول لاستحالة الجمع بين الحدوث ، ونفي الابتداء فثبت أنه قديم لم يزل .

فإن قال قائل : فما الدليل على أنه ليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ؟

قيل : لأنه لو كان جسما لكان مؤلفا . والمؤلف شيئان ، وهو سبحانه شيء واحد ولا يحتمل التأليف .

وليس بجوهر ؛ لأن الجوهر هو الحامل للأعراض ، المقابل للمتضادات ، ولو كان كذلك لكان ذلك دليلا على حدوثه ، وهو سبحانه تعالى قديم لم يزل .

وليس بعرض ؛ لأن العرض لا يصح بقاؤه ، ولا يقوم بنفسه ، - وهو - سبحانه قائم بنفسه لم يزل موجودا ، فلا يصح عدمه . [ ص: 265 ]

فإن قال قائل : فإذا كان القديم سبحانه شيئا لا كالأشياء ، ما أنكرتم أن يكون جسما لا كالأجسام ؟ قيل له : لو لزم ذلك للزم أن يكون صورة لا كالصور ، وجسدا لا كالأجساد ، وجوهرا لا كالجواهر ، فلما لم يلزم ذلك ، لم يلزم هذا . وبعد : فإن الشيء سمة لكل موجود ، وقد سمى الله - سبحانه - نفسه شيئا ، قال الله عز وجل : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) ، ولم يسم نفسه جسما ، ولا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اتفق المسلمون عليه ، قال الله عز وجل : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه لا يشبه المصنوعات ، ولا يتصور في الوهم ؟ قيل : لأنه لو أشبهها لجاز عليه جميع ما يجوز على المصنوعات من سمات النقص [ ص: 266 ] وأمارات الحدث ، والحاجة إلى محدث غيره ، وذلك يقتضي نفيه ، فوجب أنه كما وصف نفسه : ( ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) .

ولأنا نجد كل صنعة فيما بيننا لا تشبه صانعها كالكتابة لا تشبه الكاتب ، والبناء لا يشبه الباني ، فدل ما ظهر لنا من ذلك على ما غاب عنا ، وعلمنا أن صنعة الباري لا تشبهه .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه قائم بنفسه ، مستغن عن غيره ؟

قيل : لأن خلاف هذا الوصف يوجب حاجته إلى غيره ، والحاجة دليل الحدث ؛ لأنها تكون إلى وقت ، ثم تبطل بحدوث ضدها ، وما جاز دخول الحوادث عليه كان محدثا مثلها ، وقد قامت الدلالة على قدمه .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه حي عالم قادر ؟ قيل : ظهور فعله دليل على حياته وقدرته وعلمه ؛ لأن ذلك لا يصح وقوعه من ميت ، ولا عاجز ، ولا جاهل به ، فدل ذلك على أنه بخلاف وصف من لا يتأتى ذلك منه ، ولا يكون بخلاف ذلك إلا وهو حي قادر عالم .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه مريد ؟

قيل : لأنه حي ، عالم ليس بمكره ، ولا مغلوب ، ولا به آفة تمنعه من ذلك ، وكل حي خلا مما يضاد العلم ، ولم يكن به آفة تخرجه من الإرادة كان مريدا مختارا قاصدا .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه سميع بصير ؟ قيل : لأنه حي ، ويستحيل وجود حي يتعرى عن الوصف بما يدرك المسموع ، والمرئي ، أو بالآفة المانعة منه ، ويستحيل تخصيصه من أحد هذين الوصفين ، بالآفة ؛ لأنها منع ، والمنع يقتضي مانعا وممنوعا ، ومن كان ممنوعا كان مغلوبا ، وذلك صفة الحدث ، والباري قديم لم يزل ، فهو سميع بصير لم يزل ولا يزال . [ ص: 267 ]

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه متكلم ؟ قيل : لأنه حي ليس بساكت ، ولا به آفة تمنعه من الكلام ، وكل حي كان كذلك ، كان متكلما ، ولأنه يستحيل لزوم الخطاب ، ووجود الأمر عمن لا يصح منه الكلام ، فوجب أن يكون متكلما .

فإن قال قائل : فما الدليل على أنه لم يزل حيا ، قادرا ، عالما ، مريدا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ؟ قيل : لأنه لو لم يكن كذلك لكان موصوفا بأضدادها من موت ، أو عجز أو آفة ، ولو كان كذلك لاستحال أن يقع منه فعل ، وفي صحة الفعل منه دليل على أنه لم يزل كذلك ، ولا يزال كذلك .

فإن قال قائل : وما الدليل على أنه حي ، قادر ، عالم ، مريد ، سميع ، بصير ، متكلم ، له الحياة والقدرة والعلم والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ؟

قيل : لأنه يستحيل إثباث موجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات عنه ، وحين لزم إثباته بهذه الأوصاف لزم إثبات هذه الصفات له ، قال الله عز وجل : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) .

وقال تعالى ( وسع كل شيء علما ) .

وقال : ( وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) .

أي علمه قد أحاط بالمعلومات كلها - إلى سائر الآيات التي وردت في هذا المعنى ، وقال : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . فأثبت القوة لنفسه ، وهي القدرة ، وأثبت العلم ، فدل على أنه عالم بعلم ، قادر بقدرة ، ولأنه لو جاز عالم لا علم له لجاز علم لا لعالم به ، كما أنه لو جاز فاعل لا فعل له ، لجاز فعل لا لفاعل ، فلا استحال فاعل لا فعل له كما استحال فعل لا فاعل له ، كذلك يستحيل عالم لا علم له كما يستحيل علم لا لعالم . [ ص: 268 ]

ولأن العلم لو لم يكن شرطا في كون العالم عالما لم يضر عدمه في كل عالم ، حتى يصح كل عالم أن يكون عالما مع عدم العلم ، وحين كان شرطا في كون بعضهم عالما وجب ذلك في كل عالم لامتناع اختلاف الحقائق من الموصوفين .

ولأن إحكام الفعل يمتنع مع عدم العلم منا به كما يمتنع مع كوننا غير عالمين به ، فكما وجب استواء جميع المحكمين في كونهم علماء ، كذلك يجب استواءهم في كون العلم لهم لاستحالة وقوعه من غير ذي علم به منا كاستحالة وقوعه من غير عالم به منا .

ولأن حقيقة العلم ما يعلم به العالم ، وبعدمه يخرج عن كونه عالما ، فلو كان القديم عالما بنفسه كانت نفسه علما له ، ولا يجوز أن يكون العالم في معنى العلم .

فإن عارضوا ما ذكرنا من الآيات بقول الله عز وجل : ( وفوق كل ذي علم عليم ) قلنا : لسنا نقول : إن الله ذو علم على التنكير ، وإنما نقول : إنه ذو العلم على التعريف كما نقول : إنه ذو الجلال ، والإكرام على التعريف ، ولا نقول إنه ذو جلال وإكرام على التنكير فمعنى الآية إذا : وفوق كل ذي علم محدث من هو أعلم منه " .

فإن قالوا : فيقولون : إن علمه قديم وهو قديم . قيل : من أصحابنا من لا يقول ذلك مع إثباته له أزليا ، ومنهم من يقول : ذلك ولا يجب به الاشتباه ؛ لأن القديم هو المتقدم في وجوده بشرط المبالغة ، والتقدم في الوجود هو الوجود ، والوجود لا يوجب الاشتباه عند أحد ، فكذلك التقدم في الوجود لا يوجب الاشتباه ، ولأن القدم وصف مشترك يقال : شيخ قديم ، وبناء قديم ، وعرجون قديم ، فالاشتباه لا يقع بالاشتراك في الوصف المشترك ، ولأنه لو كان الاشتباه يقع بالاشتراك في القدم ، لكان يقع بالاشتراك في الحدث ، فلما لم يقع بالاشتراك في الحدث ، لم يقع بالاشتراك في القدم . [ ص: 269 ]

ولأن عندنا حقيقة المشتبهين هما الغيران اللذان يجوز على أحدهما جميع ما يجوز على صاحبه وينوب منابه ، وصفات الله تعالى ليست بأغيار له .

فإن قالوا : لو كان له علم لم يخل من أن يكون هو أو غيره أو بعضه قيل : هذه دعوى بل ما ينكر من علم لا يجوز أن يقال هو هو لاستحالة أن يكون العلم عالما ، ولا يجوز أن يقال : غيره لاستحالة مفارقته له ، ومعنى الغيرين ما لا يستحيل مفارقة أحدهما لصاحبه بوجه ، ولا يجوز أن يقال بعضه إذ ليس الموصوف به متبعضا .

فإن قال : لو كان له علم لكان عرضا مكتسبا ، أو مضطرا إليه ، وكان اعتقادا من جنس علومنا ؛ لأن ذلك حكم العلم المعقول .

قيل : ليس الأمر كذلك ؛ لأن العلم لم يكن علما ؛ لأنه عرض أو بصفة مما ذكرتم ، وإنما كان علما ؛ لأن العالم به يعلم ، ثم ينظر فإن كان العلم محدثا كان علمه عرضا مكتسبا ، أو مضطرا إليه ، وإن لم يكن محدثا لم يصح وصفه بما يوجب الحدث ، ولما وجب أن يكون عالما غير معتقد ، ولا مكتسب ولا مضطر وجب أن يكون له علم لا يصح وصفه بشيء مما ذكرتم ، فإن قالوا : لو كان عالما بعلم لكان محتاجا إلى علمه .

قيل : لا تجوز عليه الحاجة ؛ لأنه غني ، ليس علمه ، ولا سائر صفاته الذاتية أغيارا له ، ولا أبعاضا حتى يصح وصفه بالحاجة إلى غيره أو إلى بعضه ، فإن قالوا : فيقولون إن علمه علم بكل ما يصح أن يعلم .

قيل : كذلك نقول ، ولذلك وصف الله تعالى علمه ، فقال : [ ص: 270 ] ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) .

وأما غير الله عز وجل ، فإنه لا يصح أن يكون عالما بكل معلوم ، فلم يصح أن يكون له علم بذلك ، فالله سبحانه وتعالى يجب كونه عالما بكل معلوم ، وكذلك يجب أن يكون علمه علما بكل ما يصح أن يعلم . والكلام في سائر الصفات الذاتية كالكلام في العلم ، ولا يجوز في شيء من ذلك أن يقال : إنه يجاوره ؛ لأن المجاورة تقتضي المماسة ، أو المقاربة في المكان ، وذلك صفة للأجسام التي هي محل الحوادث ، ولا يقال : إنها تحله ؛ لأن الحلول يقتضي المجاورة ، وقد قامت الدلالة على بطلانها ، ولا يقال : إنها تخالفه أو تفارقه ؛ لأن المفارقة ، والمخالفة فرع للغيرية ، والتغاير بينه ، وبين صفاته محال ، ولا يقال : إنه ملكه ؛ لأن ما يملك يصح أن يفعل ، وصفاته أزلية لا يصح أن تفعل ، ولا يقال : في صفات ذاته إنها في أنفسها مختلفة ، ولا متفقة ؛ لأنها ليست بمتغايرة .

ولا يقال : إنها مع الله أو في الله بل هي مختصة بذاته قائمة به لم يزل كان موصوفا بها ، ولا يزال هو موصوفا بها . ولله تعالى صفات خبرية منها الوجه واليد . وطريق إثباتها ورود خبر الصادق بها فنثبتها ولا نكيفها . وأما صفات الفعل : كالخلق والرزق فإنها أغيار ، وهي فيما لا يزال ، ولا يصح وصفه بها في الأزل ، وأبى المحققون من أصحابنا أن يقولوا : في الله جل ثناؤه أنه لم يزل خالقا ورازقا ، ولكن يقولون : خالقنا لم يزل ، ورازقنا لم يزل ، قادرا على الخلق والرزق ؛ لأنه لم يخلق في الأزل ، ثم خلق ، وإذا سمي خالقا بعد وجود الخلق لم يوجب ذلك تغيرا في ذاته ، كما أن الرجل إذا سمي أبا بعد أن لم يسم أبا ، لم يوجب ذلك تغيرا في نفسه . ومن أصحابنا من قال : يجوز القول بأنه لم يزل خالقا رازقا على معنى أنه سيخلق وسيرزق ، وبالله التوفيق " . [ ص: 271 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية