صفحة جزء
[ 33 ] أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الحسين علي بن عبد الرحمن بن عيسى الدهقان بالكوفة ، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري ، حدثنا جعفر بن عون ، عن أبي العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، أن رجلا من اليهود قال لعمر : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : " أي آية ؟ " قال : ( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا ) .

فقال عمر : " قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت [ ص: 137 ] فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم جمعة "
رواه البخاري في الصحيح ، عن الحسن بن الصباح ، ورواه مسلم ، عن عبد بن حميد كلاهما ، عن جعفر بن عون .

وذهب بعض من قال بزيادة الإيمان ونقصانه إلى أنه إذا ارتكب معصية فإنها تحبط مما يقدمها من الطاعات بقدرها ، وحتى ارتقى بعضهم إلى أصل الإيمان غير أنه لا يقول بالتخليد ، وأمره موكول إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه برحمته ، أو بشفاعة الشافعين ، وإن شاء عاقبه بذنوبه ، ثم أدخله الجنة برحمته .

واحتج بعض من قال بقولهم بقول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول ) الآية إنما أراد بذلك أن رفع الصوت فوق صوته يقع معصية ، فيخرج إيمان الرافع ويحبط بعض عمله ، واحتج أيضا بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) " قال الحليمي رحمه الله تعالى : " وقد يخرج هذا على غير ما قاله المحتج به ، وهو أن يكون المعنى لا يحملنكم أيها المهاجرون هجرتكم معه ، ولا أيها الأنصار إيوائكم إياه على أن تضيعوا حرمته ، وترفعوا أصواتكم فوق صوته ، فتكونوا بذلك صارفين [ ص: 138 ] ما تقدم منكم من الهجرة والإيواء والنصرة من ابتغاء وجه الله به ، إلى غرض غيره ووجه سواه فلا تستوجبوا به مع ذلك أجرا .

ويخرج على وجه آخر وهو أن يقال : ( ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) .

فإن ذلك قد يبلغ بكم حد الإزراء به والاستخفاف له فتكفروا ، وتحبط أعمالكم إلا أن تتوبوا وتسلموا ، وكذلك قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فليس على أن المن يحبط الصدقة ، وإنما وجهه أن الصدقة يبتغى بها وجه الله تعالى جده ، وهو المأمول منه ثوابها ، فإذا من المتصدق على السائل وآذاه بالتعيير فقد صرفها عن ابتغاء وجه الله بها إلى وجه السائل فحبط أجره عند الله لهذا ووصلت عند المتصدق عليه مع ذلك ؛ لأنه إن كان حباه فقد آذاه ، وإن كان أعطاه فقد أخزاه ، ولو كان ذلك على معنى إفساد الطاعة بالمعصية لم تختص بالبطلان صدقته . وبسط الكلام فيه - إلى أن قال - وإن من الطعن على هذا القول أن سيئات المؤمن متناهية الجزاء ، وحسناته ليست بمتناهية ؛ لأن مع ثوابها الخلود في الجنة ، فلا يتوهم أن تكون التبعة المتناهية التي يستحقها المؤمن بسيئة تأتي على ثواب حسنة لا نهاية له ، فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من اقتنى كلبا إلا كلب صيد [ ص: 139 ] أو ماشية فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطان " . فإنما هو على معنى أنه ينقص من أجر عمله كل يوم قيراطان ، وهو في أكثر الرواية ، عن ابن عمر في هذا الحديث " من أجره " .

وفي بعضها من عمله " قال الحليمي : " وهو على معنى أنه يحرم لأجل هذه السيئة بعض ثواب عمله ، ولسنا ننكر جواز أن يحرم الله تعالى المؤمن بعض جزاء إحسانه ويقلل ثوابه لأجل سيئة ، أو سيئات تكون منه ، وإنما أنكرنا قول من يقول : إن السيئة قد تحبط الطاعة ، أو توجب إبطال ثوابها أصلا ، وذلك أنه لم يأت به كتاب ، ولا خبر ، ولا يمكن أن يكون مع ثبوت الخلود للمؤمنين في الجنة ، والله تعالى أعلم " قال الإمام أحمد رحمه الله : " وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما المفلس ؟ " [ ص: 140 ] قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : " إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار " فهذا إنما يحتج به من قال : بإحباط السيئة الحسنة ، ووجهه عندي - والله أعلم - أنه يعطى خصماؤه من أجر حسناته ، ما يوازي عقوبة سيئاته ، فإن فنيت حسناته أي أجر حسناته الذي قوبل بعقوبة سيئاته أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار حتى يعذب بها إن لم يغفر له حتى إذا انتهت عقوبة تلك الخطايا رد إلى الجنة بما كتب له من الخلود ، ولا يعطى خصماؤه ما زاد من الأجر على ما قابل عقوبة سيئاته ؛ لأن ذلك فضل من الله تعالى يخص به من وافى القيامة مؤمنا ، والله تعالى أعلم " .

التالي السابق


الخدمات العلمية