صفحة جزء
2009 - ويروى عن ابن جريج ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس في العرايا صدقة " . [ ص: 1080 ]

2010 - أخبرنا حميد قال : والعرايا تفسر على وجهين :

فأما مالك بن أنس فإنه كان يقول فيما حدثني عنه ابن أبي أويس : العرية هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج يعريها إياه ، فيأتي المعرى وهو الموهوب له إلى نخلته تلك ليجتنيها ، فيشق على المعري - وهو الواهب - دخوله عليه لمكان أهله في النخل ، قال : فجاءت الرخصة للواهب خاصة في أن يشتري ثمر تلك النخلة من الموهوب له بخرصها تمرا ، فهذا قول مالك .

وأما غير مالك فإنه كان يقول : العرايا هي النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته ، فلا يدخلها في البيع ، ولكنه يبقيها لنفسه وعياله ، فتلك هي الثنيا لا تخرص عليه ، لأنه قد عفي لهم عما يأكلون ، وهي العرايا سميت بذلك لأنها أعريت من أن تباع أو تخرص للصدقة . ولكلا التفسيرين وجه ومذهب ، فأما على التفسير الأول ، فإنها سميت عرية من أجل أن مالكها أعرى ثمرتها ، أي وهبها وتصدق بها وأما على التفسير الثاني ، فإنها سميت عرية من أجل أنها أعراها من البيع [ ص: 1081 ] ، فلم يبعها مع ثمر نخله ، فلا يخرص عليه ذلك في أحد من الوجهين ؛ لأن الثمار إنما تخرص للصدقة .

وهو على التفسير الأول تصدق بها كلها ، فلا تؤخذ صدقة من صدقة ولا تخرص عليه في الوجه الثاني أيضا ؛ لأنه إنما احتبسها لنفسه وعياله ، وقد عفي لهم عن قد ما يأكلون .

قال حميد : وهذا كله قول أهل الحجاز : فأما ناس من أهل الرأي من أهل العراق ، فإنهم قد أنكروا خرص الثمار للصدقة ، مع كثرة الآثار في ذلك بوجوه قالوها : منها أنهم قالوا : إن الخرص من المزابنة في البيع وقالوا أيضا : هو كالقمار والمخاطرة التي لا يدرى فيها أي الفريقين يذهب بمال صاحبه ، وقالوا : إنما كان الخرص للنبي خاصة ؛ لأنه كان يوفق من الصواب لما لا يوفق له غيره ،

وقالوا كذلك : القرعة لا تجوز لأحد بعد والخرص والقرعة سنتان ماضيتان قد عمل بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعملت بهما الأئمة والعلماء بعده ، فأما تشبيههم الخرص [ ص: 1082 ] بالمزابنة في البيع ، وإبطالهم إياه في الصدقة من أجل البيع ، فإن شرائع الإسلام أمهات لا يقاس بعضها ببعض ، لأن لكل واحدة منهن حكما غير الأخرى ، ولو احتج محتج على قائل هذا فقال له : إن جاز لك أن تجعل البيع أصلا تقيس عليه الصدقة ، فإني أجعل الصدقة أصلا أقيس عليه البيع - ما كان دعواهما إلا واحدا ، وكلاهما كان أخذ في غير الصواب

وأما قولهم إن الخرص كالقمار والمخاطرة ، فإنما قصد بالخرص قصد البر والتقوى ، ووضع الحقوق في مواضعها ، وقصد بالقمار قصد الفجور والزيغ عن الحق ، وأخذ الأموال بالباطل ، فكم بين هذا وذلك ؟ ومتى يستوي الغي بالرشاد ؟ مع أن الذي جاء بتحريم القمار والمزابنة في البيع هو الذي سن الخرص وأباحه وعمل به ، وكفانا وإياهم مؤنة النظر في ذلك ، فما جعل قوله هناك مقبولا ، وههنا مردودا ؟ وأما قولهم أن النبي كان يوفق من الخرص والقرعة لما لا يوفق له غيره ، فإن من الحجة عليهم أن يقال لهم : وهل شيء من الأمور سوى هذين يوفق الناس له كتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم إذا خصصت له هاتين الخصلتين دون سائر الأشياء ؟ ولو كان الناس لا يجب عليهم اتباع الأنبياء إلا فيما يعلمون أنهم يسددون لصوابه كتسديد الأنبياء وإلا اجتنبوه لوجب على الناس إذا ترك الاستنان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولزمهم اجتناب أموره وأحكامه ، لأن العقل محيط بأن من يأتيه وحي السماء وأخبارها بعيد الشبه مما يغلط على علم مغيب ، ولكن الذي [ ص: 1083 ] يجب عليهم وعلينا إحياء سنن النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره والاهتداء بهديه في تغليظ ما غلظ ، وتسهيل ما سهل ، والله ولي ما غاب عنا من ذلك .

يليه باب صدقة الأحباس والأوقاف ، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم تسليما . [ ص: 1084 ] [ ص: 1085 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية