صفحة جزء
ص - ثم المفهوم مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة .

[ ص: 437 ] فالأول أن يكون السكوت موافقا في الحكم ، ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب ؛ كتحريم الضرب من قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) [ ص: 438 ] وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله تعالى : فمن يعمل [ ص: 439 ] وكتأدية ما دون القنطار من : ( يؤده إليك ) وعدم الآخر من ( لا يؤده إليك ) .

وهو تنبيه بالأدنى فلذلك كان في غيره أولى .

ويعرف بمعرفة المعنى وأنه أشد مناسبة في المسكوت ، ومن ثم قال قوم : هو قياس جلي .

لنا : القطع بذلك لغة قبل شرع القياس .

وأيضا : فأصل هذا قد يندرج في الفرع ؛ مثل : لا تعطه ذرة [ ص: 440 ] [ فإنها مندرجة في الذرتين ] .

قالوا : لولا المعنى لما حكم .

وأجيب بأنه شرط لغة ، ومن ثم قال به النافي للقياس ، ويكون قطعيا ، كالأمثلة .

وظنيا ، كقول الشافعي - رحمه الله - في كفارة العمد واليمين الغموس .


ش - لما فرغ من المنطوق شرع في المفهوم .

وهو ينقسم إلى مفهوم موافقة وإلى مفهوم مخالفة .

فالأول ، أي مفهوم الموافقة : أن يكون المسكوت موافقا للمنطوق في الحكم ، ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب ، أي معناه .

مثال مفهوم الموافقة : تحريم الضرب من قوله تعالى : فلا تقل لهما أف فإن حكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق لحكم المفهوم منه في محل النطق .

[ ص: 441 ] وكفهم الجزاء بما فوق المثقال من قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .

وكفهم تأدية ما دون القنطار من قوله تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك .

وكفهم عدم تأدية ما زاد على الدينار من قوله تعالى : ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك .

والقنطار : المعيار ، ونقل عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال : هو ألف ومائتي أوقية ، ويقال : هو مائة وعشرون رطلا ، ويقال : ملء مسك الثور ذهبا ، والمسك ، بالفتح : الجلد .

والمثال الثالث من قبيل التنبيه بالأعلى على الأدنى ، وباقي الأمثلة من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى .

( فذلك ، أي فلأجل أن دلالة الملفوظ على المفهوم هو التنبيه بالأعلى على الأدنى ) أو بالعكس ، كان الحكم في غير الملفوظ - أي المسكوت - أولى من الحكم في الملفوظ .

ويعرف الحكم في محل السكوت بمعرفة المقصود من الحكم في محل النطق .

وأن ذلك المعنى أشد مناسبة للحكم في محل السكوت .

[ ص: 442 ] ومن ثم - أي ومن أجل توقف معرفة الحكم في محل السكوت على معرفة المعنى في محل النطق ، وكونه أشد مناسبة للحكم في محل السكوت - قال قوم : هو قياس جلي .

واحتج المصنف على أنه ليس بقياس بوجهين :

أحدهما - أنا نقطع بفهم المعنى في محل السكوت لغة قبل شرع القياس ، فلا يكون قياسا .

الثاني - أنه لو كان قياسا لم يندرج أصل هذا تحت الفرع .

والتالي باطل .

أما الملازمة فظاهرة .

وأما انتفاء التالي فلأن أصل هذا قد يندرج في الفرع ؛ مثل قول القائل : لا تعط ذرة ، فإنه يفهم منه منع إعطاء ما فوق ذرة ، والذرة مندرجة فيما فوقها .

القائلون بكونه قياسا ، قالوا : لولا المعنى المشترك بين المفهوم والمنطوق لما ثبت حكم المفهوم . ولا معنى للقياس إلا ذلك .

أجاب بأن وجود المعنى المشترك شرط لدلالة الملفوظ على حكم المفهوم من حيث اللغة ، ولا يلزم منه أن يكون قياسا ; لأن القياس دل على حكم الفرع من حيث المعقول ، لا من حيث اللفظ .

[ ص: 443 ] ومن ثم - أي ومن أجل أنه ليس بقياس - قال به النافي للقياس .

ومفهوم الموافقة ينقسم إلى ما يكون قطعيا ، وإلى ما يكون ظنيا .

والقطعي : ما لا يتطرق إليه إنكار ؛ مثل الأمثلة المذكورة ، والظني بخلافه ؛ كقول الشافعي في كفارة قتل العمد : فإن الله تعالى أوجب الكفارة في قتل الخطأ بقوله : " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فإن هذا وإن دل على وجوب الكفارة في العمد ; لأنه الأولى بالمؤاخذة ، إلا أنها ليست بقطعية ; لأنا نقطع بأن وجوب الكفارة في الخطأ معلل بالمؤاخذة ; لجواز أن يكون وجوب الكفارة على الخاطئ إنما هو لأجل أن يكفر ذنبه ، وحينئذ لا يلزم وجوب الكفارة في العمد ; لأن العمد فوق الخطأ ، ولا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدق كونها رافعة للإثم الأعلى .

وكذلك قول الشافعي في كفارة اليمين الغموس : وهو أن يحلف على الماضي كاذبا ، مع علمه بالحال ؛ كقوله : والله لا أكلت ، مع علمه بالأكل .

وإنما سميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم .

وإنما أوجب الشافعي الكفارة فيها نظرا إلى أنها أولى بالكفارة من غير الغموس .

[ ص: 444 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية