صفحة جزء
[ ص: 123 ] ص - والمناسب مؤثر ، وملائم ، وغريب ، ومرسل ; لأنه إما معتبر أو لا ، والمعتبر بنص أو إجماع هو المؤثر .

والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط ، إن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنس الحكم ، فهو الملائم ، وإلا فهو الغريب .

وغير المعتبر هو المرسل ، فإن كان غريبا أو ثبت إلغاؤه ، فمردود اتفاقا ، وإن كان ملائما ، فقد صرح الإمام والغزالي - رحمهما الله - بقبوله .

وذكر عن مالك والشافعي ، والمختار رده .

وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية ، فالأول كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية ، فإن عين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع .

والثاني كالتعليل بعذر الحرج في حمل الحضر بالمطر على السفر في الجميع ، فإن جنس الحرج معتبر في عين رخصة الجمع .

والثالث كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقل على المحدد في القصاص ، فإن جنس الجناية معتبر في القصاص [ ص: 124 ] كالأطراف وغيرها .

والغريب كالتعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في حمل البات في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود ، حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل .

وكالتعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص بالتعليل به .

والمرسل الذي ثبت إلغاؤه كإيجاب شهرين ابتداء في الظهار .


ش - اعلم أن قبل الخوض في تقدير ما في المتن ، نذكر مقدمة نافعة ، فنقول : إن للجنسية في الحكم والوصف مراتب بحسب الخصوص والعموم .

أما في الحكم فأعم أجناسه كونه حكما شرعيا ، ثم الوجوب ، ثم وجوب العبادات ، ثم وجوب الصلاة .

وأما في الوصف فأعم أجناسه كونه وصفا يناط به الحكم فيدخل فيه الوصف المناسب وغير المناسب ، ثم الوصف المناسب ، ثم المناسب الضروري ، ثم الضروري في حفظ الدين .

والأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن اعتبار الشارع إياها .

وكلما كان التفات الشارع إليه أكثر ، كان ظن كونه معتبرا أقوى .

[ ص: 125 ] وكلما كان الوصف والحكم أخص ، كان كون الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد ، فيكون لا محالة مقدما على ما يكون أعم منه . إذا عرفت ذلك فنقول : الوصف المناسب على أربعة أقسام : مؤثر ، وملائم ، وغريب ، ومرسل . ووجه الحصر أن المناسب إما أن يكون معتبرا في نظر الشارع ، أي اعتبر الشارع عينه في عين الحكم ، أو غير معتبر .

والمعتبر إما أن يعتبر عينه في عين الحكم بنص أو إجماع ، ويسمى مؤثرا ; لأنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص ، كتعليل الحدث بمس المحدث ذكره ، فإنه اعتبر عين مس المحدث ذكره في عين الحدث بالنص بقوله - عليه السلام : " من مس ذكره فليتوضأ " .

وكتعليل الولاية في المال بالصغر ، فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال بالإجماع .

وإما أن يعتبر عينه في عين الحكم لا بنص ولا بإجماع ، بل بترتيب الحكم على الوصف فقط ، وحينئذ إن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في جنس الحكم ، أو بالعكس ، أي اعتبار جنس الوصف في عين الحكم ، أو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ، يسمى ملائما ; لكونه موافقا [ ص: 126 ] لما اعتبره الشارع .

وإن لم يثبت بنص أو إجماع واحد منهما ، بل اعتبر الشارع عين الوصف في عين الحكم عليه فقط ، يسمى غريبا ، وغير المعتبر هو المرسل .

ثم المرسل ينقسم باعتبار إلى مرسل ملائم ، وإلى مرسل غريب ; لأنه إن اعتبر الشارع جنسه البعيد في جنس الحكم ، فهو المرسل الملائم ، وإلا فهو المرسل الغريب .

مثال المرسل الملائم : تعليل تحريم قليل الخمر بأنه يدعو إلى كثيرها ، وهذا مناسب لم يعتبر الشارع عين الوصف في عين الحكم ; لأنه لم يترتب الحكم عليه ، ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنسه ، لكنه اعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم . فإن الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا ، حرمها الشارع بتحريم الزنا .

وهذا ملائم من هذه الجهة لتصرف الشارع ، وباعتبار آخر إلى معلوم الإلغاء من الشرع ، وإلى غير معلوم الإلغاء .

[ ص: 127 ] والمرسل الغريب ، والذي علم إلغاؤه مردود اتفاقا ، أي لا يجوز التعليل به بالاتفاق .

وأما المرسل الملائم ، فقد صرح إمام الحرمين والغزالي بقبوله . ونقل قبوله عن الشافعي ومالك ، رضي الله عنهما .

والمختار عند المصنف رده مطلقا ، بناء على أن الشارع لم يعتبر نوعه في نوعه بترتيب الحكم عليه ، ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم ، ولا جنسه في عين الحكم ، ولا جنسه في جنسه ، فلا يحصل الظن بعليته .

وشرط الغزالي في قبول المرسل الملائم أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية ، والمراد بالضرورية : كونها أحد الخمسة التي هي حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسب ، والمال ، وبالقطعية أن يكون الجزم بوجود المصلحة حاصلا ، وبالكلية أن لا تكون مخصوصة ببعض المسلمين دون بعض .

وذلك كتترس الكفار الصائلين بأسارى المسلمين مع الجزم بأنا لو كففنا عن الترس ، استولى الكفار على جميع بلاد الإسلام ، وقتلوا [ ص: 128 ] المسلمين بأجمعهم ، حتى الترس ، فإن قتل الترس حينئذ يكون مصلحة ضرورية قطعية كلية .

وإنما وجب قبوله عند اعتبار هذه الشرائط ; لأنه لو لم يقبله ، يلزم عدم اعتبار ما هو مقصود ضروري من الشرع ، وهو حفظ الدين والنفس ، فإن عدم قبوله يفضي إلى إبطال الدين وهلاك جميع المسلمين من الأسارى وغيرهم .

وإنما اشترط القطعي; ليحصل الجزم بالإخلال المذكور ، وإنما اشترط الكلي ، لئلا يلزم ترجيح أحد الجائزين على الآخر . فإن محافظة نفس غير الأسارى ، ليست بأولى من محافظة نفوس الأسارى في الدين .

ثم أورد المصنف أمثلة الملائم ، والغريب المرسل ، والغريب الغير المرسل ، والمرسل الذي ثبت إلغاؤه .

أما الملائم ، فقد ذكر أمثلة أقسامه الثلاثة ، فمثال الأول منها : التعليل بالصغر في قياس النكاح على المال في الولاية ، فإن الشرع اعتبر عين الصغر في عين ولاية المال بترتيبها على الصغر ، وثبت اعتبار عين الصغر في جنس حكم الولاية بالإجماع .

[ ص: 129 ] مثال الثاني منها : التعليل بعذر الحرج في قياس الحضر بعذر المطر على السفر في رخصة الجمع بين الصلاتين . فإن الشارع اعتبر عذر حرج السفر في عين رخصة الجمع بترتيب رخصة الجمع عليه ، وثبت أيضا بالإجماع اعتبار جنس الحرج في عين رخصة الجمع .

مثال الثالث منها : التعليل بجناية القتل العمد العدوان في قياس المثقل على المحدد في قصاص النفس . فإن الشارع اعتبر عين القتل العمد العدوان في عين قصاص النفس ، وثبت بالإجماع اعتبار الجناية التي هي جنس القتل العمد العدوان في القصاص الذي هو جنس قصاص النفس ; لاشتماله على قصاص النفس وغيرها ، كالأطراف وغيرها من البصر والسمع واللسان .

مثال الغريب المرسل : التعليل بالفعل المحرم لغرض فاسد في قياس البات في المرض ، أي المطلق الطلقات الثلاث في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض مقصوده ، حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل . فإن إرسال الطلقات الثلاث فعل محرم لكونه منهيا عنه .

ومقصوده حرمان الزوجة عن الميراث ، وهو غرض فاسد ، فيجب أن يعارض بنقيض مقصوده بأن لا تحرم المبتوتة ، كما أن قاتل مورثه لأجل ماله عورض بنقيض مقصوده بحرمانه عن الإرث .

[ ص: 130 ] والجامع كون فعلهما محرما ; لأجل غرض فاسد .

وإنما كان هذا غريبا مرسلا ; لأنه لم يعتبر الشارع عين الفعل المحرم لغرض فاسد في عين المعارضة بنقيض المقصود بترتيب الحكم عليه .

ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس المعارضة بنقيض المقصود ، ولا جنسه في عينها ، ولا جنسه في جنسها ، لا قريبا ولا بعيدا .

مثال الغريب الغير المرسل : التعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر على تقدير عدم النص على علية الإسكار ، فإنه اعتبر الشارع عين الإسكار في عين التحريم بترتيب الحكم على الإسكار فقط ; لأن التقدير عدم النص على عليته .

ولم يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الإسكار في جنس تحريم الخمر ، ولا عكسه ، ولا جنسه في جنسه .

ومثال المرسل الغريب الذي ثبت إلغاؤه : إيجاب صوم شهرين ابتداء في كفارة الظهار على من يسهل عليه الإعتاق ، فإنه ثبت إلغاؤه شرعا ; لأن الشرع أوجب الإعتاق أولا ، ولم يعتبر إيجاب الصوم أولا على من يسهل عليه الإعتاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية