صفحة جزء
ص - قالوا : يفضي إلى الاختلاف ، فيرد ; لقوله : ( ولو كان من عند غير الله ) .

ورد بالعمل بالظواهر ، وبأن المراد : التناقض ، أو ما يخل بالبلاغة ، وأما الأحكام فمقطوع بالاختلاف فيها .

قالوا : إن كان كل مجتهد مصيبا ، فيكون الشيء ونقيضه حقا وهو محال ، وإن كان المصيب واحدا ، فتصويب أحد الظنين مع الاستواء محال ، ورد بالظواهر ، وبأن النقيضين شرطهما الاتحاد ، [ ص: 147 ] وبأن تصويب أحد الظنين لا بعينه جائز .

قالوا : إن كان القياس كالنفي الأصلي ، فمستغنى عنه ، وإن كان مخالفا ، فالظن لا يعارض اليقين .

ورد بالظواهر ، وبجواز مخالفة النفي الأصلي بالظن .

قالوا : حكم الله يستلزم خبره عنه ، ويستحيل بغير التوقيف .

قلنا : القياس نوع من التوقيف .

قالوا : يتناقض عند تعارض علتين .

ورد بالظواهر ، وبأنه إن كان واحدا ، رجح ، فإن تعذر وقف على قول .

وتخير عند الشافعي وأحمد ، رحمهما الله .

وإن تعدد ، فواضح .


ش - المانعون من جواز التعبد بالقياس ، احتجوا بخمسة وجوه :

الأول : أن القياس يفضي إلى الاختلاف ; لأن الأمارات [ ص: 148 ] متعددة . فيجوز أن يستنبط كل من المجتهدين أمارة ، يوجب إلحاق الفرع بأصل يخالف أصل الآخر .

وما يفضي إلى الاختلاف يكون مردودا ; لقوله - تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

فإنه يدل على أن ما كان من عند الله ، لا اختلاف فيه ، والقياس فيه اختلاف ، فلا يكون من عند الله ، فلا يجوز التعبد به .

أجاب بأن هذا الدليل منقوض بالعمل بالظاهر ; فإن فيه اختلافا مع أنه لا يكون مردودا .

وبأن المراد بالاختلاف التناقض ، أو الاختلاف الذي يخل بالبلاغة ، فيكون معنى الآية أن القرآن لو كان من عند غير الله ، لوجدوا فيه تناقضا كثيرا ، أو وجدوا فيه اختلافا يخل بالبلاغة .

وإنما وجب حمله على هذا ; لأن الاختلاف في الأحكام حاصل قطعا .

الثاني : أنه إذا اختلف أقيسة المجتهدين ، فلا يخلو إما أن يكون كل مجتهد مصيبا ، أو لا .

فإن كان الأول ، يلزم أن يكون الشيء ونقيضه حقا ، وهو محال .

[ ص: 149 ] وإن لم يكن كل مجتهد مصيبا ، فتصويب أحد الظنين ، دون الآخر مع استواء الظنين ، محال; لامتناع الترجيح بلا مرجح .

أجاب بالنقض ، فإن هذا الدليل بعينه جار في العمل بالظاهر ، مع جواز التعبد به .

وبأنا لا نسلم لزوم كون الشيء ونقيضه حقا عند تصويب كل مجتهد ، وذلك لأن ما أفضى إليه اجتهاد كل مجتهد من الحكم ، لا يكون نقيضا لما أفضى إليه اجتهاد الآخر ; لأن شرط التناقض الاتحاد فيما عدا السلب والإيجاب .

ويجوز أن يكون عند الاختلاف حكم الله - تعالى - في حق أحد المجتهدين : الحرمة ، وفي حق الآخر الإباحة ، أو الحرمة في زمان ، والإباحة في آخر .

وإذا كان اجتهاد مجتهد واحد مختلفا ، فيكون الحرمة بالنسبة إلى شخص ، أو في زمان ، وعدم الحرمة بالنسبة إلى شخص آخر أو زمان آخر ، فلا يتحقق الاتحاد ، فلا يلزم التناقض ، وبأنا لا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح عند تصويب أحد المجتهدين ، وذلك لأنا نحكم بتصويب أحد المجتهدين لا بعينه ، وتصويب أحدهما لا بعينه لا يستلزم الترجيح بدون مرجح .

الثالث : أن مقتضى القياس لا يخلو إما أن يكون موافقا للنفي الأصلي ، أي البراءة الأصلية ، أو مخالفا له .

[ ص: 150 ] فإن كان الأول ، يكون القياس مستغنى عنه ; لأن مقتضاه ثابت بالبراءة الأصلية ، وإن كان الثاني ، يكون القياس باطلا ; لأن النفي الأصلي متيقن ، والقياس مظنون ، والظن لا يعارض اليقين .

أجاب بالنقض بالعمل بالظاهر ، وبأنه يجوز ترك النفي الأصلي لأجل العمل بالظن .

الرابع : أن حكم الله - تعالى - يستلزم أن يخبر الله - تعالى - عنه ; لأن الحكم مفسر بخطاب الله - تعالى ، ويستحيل خبره عنه بغير التوقيف ، والحكم الثابت بالقياس لا يكون بالتوقيف ، فلا يكون حكم الله .

أجاب بأن القياس نوع من التوقيف ; لأنه ثابت بالقرآن أو الإجماع .

الخامس : أنه لو جاز العمل بالقياس ، لزم التناقض عند تعارض العلتين ; لأنه إذا تعارض العلتان في نظر المجتهد فإما أن يعمل بأحدهما دون الآخر ، فيلزم الترجيح من غير مرجح ، وإن عمل بهما ، يلزم التناقض .

أجاب بالنقض بالعمل بالظاهر ، وبأنه إن كان المجتهد واحدا عند تعارض العلتين ، ترجح إحداهما على الأخرى ، فيعمل بالراجح ، [ ص: 151 ] وإن تعذر الرجحان ، توقف على قول ، ويخير في العمل بأيهما شاء عند الشافعي وأحمد .

وإن تعدد المجتهدون فكل يعمل بما هو علة عنده ، ولا يلزم التناقض ، لما مر في الجواب عن الوجه الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية