صفحة جزء
ص - والفقه : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال .


ش - الفقه لغة : الفهم . قال الله تعالى : لا تفقهون تسبيحهم أي لا تفهمون . وفي الاصطلاح ما ذكره . والعلم قد مر تفسيره .

وقد يطلق على القدر المشترك بين الظن والتقليد واليقين ، وهو الاعتقاد الراجح . [ ص: 19 ] والأحكام سيأتي تفسيرها .

والجهة الموجبة للنسبة إلى الشرع : كون تعلقاتها ، أو كون العلم بتعلقاتها مستفادا منه ، لا كون وجوداتها منه ، كما قيل ، فإنه غير صحيح ، لأن وجود الحكم متحقق قبل الشرع لكونه قديما .

والجهة الموجبة للنسبة إلى الفرع : كون أدلتها التفصيلية متفرعة على الأدلة الأصولية ، أو كونها متعلقة بالعمل الذي هو فرع العلم .

والأدلة التفصيلية : هي الأمارات . ومتعلق العلم إما أن يكون قائما بذاته ، أو لا . والأول : الذات ، كالجواهر . والثاني ، إما أن يكون مبتدأ للتغير ، أو لا .

والأول : الأفعال . والثاني - إما أن يكون مقتضيا لنسبة مفيدة ، أو لا . والأول : الأحكام . والثاني : الصفات الحقيقية .

فخرج بالأحكام : العلم بالذوات والصفات الحقيقية والأفعال . وبالشرعية : الأحكام العقلية . وبالفرعية : الأصولية . وبقوله : عن أدلتها [ ص: 20 ] التفصيلية : علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة والحج ; لأن علمنا بهذه الأشياء ضروري غير محتاج إلى دليل .

وبالاستدلال : اعتقاد المستفتي . والباقي قوله : " بالأحكام " متعلق بمحذوف تقديره : العلم المتعلق بالأحكام . وليس المراد من العلم بها تصورها ; لأنه من مبادئ أصول الفقه ، ولا التصديق بثبوتها في أنفسها ; فإنه من مسائل الكلام بل التصديق بكونها متعلقة بالأفعال . كقولنا : شرب النبيذ حرام ، والبيع حلال ، وأمثال ذلك .

بقي ههنا بحث : وهو أن التصديق على الوجه المذكور بمعنى اليقين ، أو بمعنى الاعتقاد الراجح المتناول لليقين والظن والتقليد .

قال بعض الشارحين : لو كان بمعنى اليقين - أي الاعتقاد الجازم المطابق ، لا لمحض التقليد ، وتعلق قوله : " عن أدلتها التفصيلية " بالفرعية - لم يدخل التقليد ; لأن اعتقاد المقلد غير يقيني .

ويخرج علم الباري بـ " الاستدلال " لا بقيد " عن أدلتها التفصيلية " على تقدير تعلقها بالفرعية ; لأن تفرع الأحكام عن أدلتها التفصيلية لا يوجب تفرع العلم المتعلق بها .

وفيه نظر ; لأن فرعية الأحكام عنها ، إما من حيث الوجود ، أو من حيث العلم . [ ص: 21 ] والأول باطل; ضرورة كون الحكم قديما ، والثاني يلزم تفرع العلم .

والعجب أنه ذكر بعد هذا في شرحه أن الفرعية صفة للأحكام وهي باعتبار التصور ، لا باعتبار الوجود ; إذ عدم الأدلة لا يوجب عدمها ، وعدم الفرع مرتب على عدم الأصل ، فهي فرع باعتبار العلم بحصولها للأفعال .

وأيضا - الأحكام ليست هي فرعا ، بل منسوبة إلى الفرع . والحق أن العلم بالمعنى الأعم .

وقوله : " عن أدلتها التفصيلية " متعلق بالعلم . وبه خرج علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة ; لأنه غير مستفاد من الأدلة .

وما قيل : إن علم الله تعالى بالأحكام عن " الأدلة التفصيلية " ; لأن العلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول ، فباطل ; لأن الأدلة لا تكون علة للأحكام ، بل تكون أمارات لها ، لما قيل : إن الدليل بالمعنى المذكور - وهو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري - يمنع أن يكون علمه تعالى عن الأدلة ; ضرورة امتناع حصول العلم له بالنظر ; لأن ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه جاز أن يكون مستلزما للمطلوب الخبري ، من غير أن ينظر فيه . فلا يلزم من حصول علمه تعالى عن الأدلة ، حصوله بالنظر .

[ ص: 22 ] فإن قيل : فعلى هذا قيد " الاستدلال " ضائع ; لأنه يخرج بقيد " عن أدلتها التفصيلية " علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة والحج ، واعتقاد المستفتي ، لأنه ليس شيء منها حاصلا عن الأدلة التفصيلية !

أجيب عنه بأنا لا نسلم أن اعتقاد المستفتي ليس بحاصل عن أدلتها التفصيلية . وذلك لأن اعتقاد المستفتي مستند إلى علم المفتي المستند إلى الأدلة التفصيلية . فاعتقاد المستفتي مستند إلى الأدلة التفصيلية .

وقولنا : العلم الحاصل عن الأدلة التفصيلية لا يقتضي أن يكون حاصلا عنها بلا واسطة . فقوله : " بالاستدلال " يخرج اعتقاد المستفتي ; لأنه وإن كان حاصلا عنها ، لكنه ليس بالاستدلال .

[ ص: 23 ] فإن قيل : ما قيل في عدم خروجه بقوله : " عن أدلتها التفصيلية " يمكن أن يقال في عدم خروجه بـ " الاستدلال " . أجيب بأن تقديره بالاستدلال عليه ، أي على العلم ، واعتقاد المستفتي لم يستدل عليه . هذا إذا أريد بالعلم المعنى الأعم .

وأما إذا أريد بالعلم : اليقين ، يلزم بطلان التعريف من وجهين : الأول : أنه لم يتناول العلم حينئذ اعتقاد المستفتي ، فلم يحتج إلى قيد يخرجه ، فيكون قيد " الاستدلال " ضائعا .

والثاني : أنه ترد الشبهة المشهورة ، وهي : أن الفقه من باب الظنون ; لأنه مستفاد من الأدلة الظنية . والمستفاد من الظني ظني ، فكيف يصح أن يكون علما . وما ذكروه في جوابه ضعيف .

أما تقرير الجواب ، فهو أن يقال : إنا لا نسلم أن الفقه من باب الظنون ; لأن المراد بالعلم بالأحكام العلم بوجوب العمل بالأحكام ، وهو قطعي ; لأنه ثابت بدليل قطعي . وذلك لأن المجتهد إذا ظن الحكم ، حصل عنده مقدمتان قطعيتان . إحداها : أن هذا الحكم مظنون . وهي ضرورية . والثانية : أن كل ما هو مظنون وجب العمل به للإجماع ولأن الظن هو الحكم بالطرف الراجح . فإما أن يعمل به وبالطرف الآخر فيلزم الجمع بين النقيضين .

[ ص: 24 ] أو لا بهذا ولا بذاك . فيلزم ارتفاع النقيضين . أو بالمرجوح فقط ، فيلزم ترجيح المرجوح ، وهو خلاف العقل . فتعين العمل بالطرف الراجح قطعا .

ويلزم من هاتين المقدمتين قولنا : هذا الحكم يجب العمل به قطعا ، إلا أنه وقع الظن في طريقه ; لأنه وقع محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى . ولا يلزم من كون المحمول ظنا ، كون القضية ظنية .

أما بيان ضعفه فمن وجوه : منها : أن الأحكام لا تدل على وجوب العمل بها إلا على سبيل المجاز ، والألفاظ المجازية لا تعتبر في [ التعريفات ] .

فإن قيل : لا نسلم أن الألفاظ المجازية لا تعتبر في [ التعريفات ] فإن الحدود الناقصة والرسوم التامة والناقصة لا تدل على ماهية المحدود والمرسوم إلا بالمجاز .

أجيب عنه بأن لفظ الحد الناقص والرسم ، لم يرد بهما المحدود والمرسوم ، وإلا لكان تعريفا للشيء بنفسه ، بل أريد منهما المفهوم المطابقي ودلالتهما على مفهومهما المطابقي بالحقيقة ، لا بالمجاز .

ومنها : أن العلم بوجوب العمل بها مستفاد من الدليل الإجمالي ، والفقه من الأدلة التفصيلية .

[ ص: 25 ] فإن قيل : لا نسلم أنه من الدليل الإجمالي ; لأن الصغرى في كل قياس مغايرة للصغرى في الآخر ; لأن المحكوم به - وهو قولنا " مظنون " - في كل منها يغاير المحكوم به في الآخر ; لأن ظن كل حكم مستفاد عن دليل خاص به ، فيكون مغايرا للظن الحاصل من دليل آخر . وتغاير الظن يوجب تغاير المظنون من حيث مظنون .

أجيب عنه بأن التغاير بهذا الاعتبار غير كاف في كون الدليل تفصيليا .

ومنها : أنه لا نسلم أن قولنا : " كل ما هو مظنون وجب العمل به " قطعي .

قوله : للإجماع . قلنا : لا نسلم أن الإجماع يفيد القطع ; لأنه مبني على الأدلة الظنية ، والمبني على الظني ظني .

ولئن سلمنا أن أدلة الإجماع قطعية ، لكن لا نسلم أن هذا الإجماع بلغ إلينا بالتواتر ، حتى يفيد القطع .

والوجه الثاني في بيان قطعيته ضعيف ; لأنا لا نسلم أنه إذا لم يعمل بواحد من الطرفين ، يلزم رفع النقيضين في الواقع ; لجواز أن لا يعمل بواحد منهما لعدم الجزم به ، مع أن الواقع لا يخلو عن أحدهما .

[ ص: 26 ] وأيضا - لا نسلم أنه إذا عمل بالمرجوح ، يلزم خلاف العقل ، وإنما يلزم ذلك أن لو كان المرجوح عند المجتهد ، مرجوحا في الواقع ، وهو ممنوع .

لا يقال : إن الظن هو الحكم بالطرف الراجح في الواقع ; لأنا نقول : المراد بالراجح في الواقع ، إما أن يكون هو الثابت فيه أو غيره ، فإن كان الأول ، فلا نسلم أن الظن هو الحكم بالطرف الراجح ; لجواز كذبه . وإن كان الثاني فبينوه حتى يتصور أولا ثم يتكلم عليه ثانيا .

ومنها : أنه يلزم انحصار جميع الفقه في الوجوب ، فيخرج عنه العلم بالندب والكراهة والحرمة والإباحة ، مع أنه من الفقه بالاتفاق .

فإن قيل : التعرض للوجوب على سبيل التمثيل ; لأن المراد هو العلم بمقتضى الظن بالأحكام على الوجه المظنون . فإن ظن وجوبه علم وجوب العمل به ، وإن ظن حرمته علم حرمة العمل بها وكذا الباقي .

أجيب عنه بأن القياس المذكور لا يفيد إلا وجوب العمل بمقتضى الظن .

فإن قيل : المراد وجوب اعتقاد الحكم على الوجه المظنون; فإنه إذا كان الندب مظنونا وجب اعتقاد ندبيته . أجيب عنه بأنه لا دلالة لقوله : " العلم بالأحكام " على ذلك فحينئذ يكون التعريف فاسدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية