تعظيم قدر الصلاة للمروزي

المروزي - محمد بن نصر بن حجاج المروزي

صفحة جزء
قال أبو عبد الله : ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم بسنته الإيمان ، إذ فهم عن الله عز وجل مثله ، فأخبر أن الإيمان ذو شعب أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، فجعل أصله الإقرار [ ص: 707 ] بالقلب واللسان ، وجعل شعبه الإيمان ، ثم جعل في غير حديث الأعمال شعبا من الإيمان ، فاستعجم على المرجئ الفهم ، فضرب المثل بخلاف ما ضربه الله ، والرسول ، وقال : " مثل عشرة دراهم " ليبطل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجعل قوله هو الحق بخلاف الآثار ، لأن الذي سمى الإيمان التصديق هو الذي أخبر أن الإيمان ذو شعب ، فمن لم يسم الأعمال شعبا كما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكما ضرب الله المثل به ، فقد خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس له أن يفرق بين صفات النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان ، فيؤمن ببعضها ، ويكفر ببعضها ، لأنه صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل : ما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله " إلى آخر القول ، ثم قال في حديث ابن عباس لوفد عبد القيس : " آمركم بالإيمان " ، ثم قال : " أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله " فبدأ بأصله ، والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه ، ولسانه ، يبتدئ بشهادة قلبه ، والإقرار به ، ثم يثني بالشهادة بلسانه ، والإقرار به كما قال من قال : لا إله إلا الله ، يرجع بها إلى القلب مخلصا يعني مخلصا بالشهادة قلبه ليس كما شهدت المنافقون إذ : ( قالوا نشهد إنك لرسول الله ) قال الله : [ ص: 708 ] ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ، فلم يكذب قلوبهم أنه حق في عينه ، ولكن كذبهم من قولهم ، فقال : ( والله يعلم إنك لرسوله ) ، أي كما قالوا ، ثم قال : ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ، فكذبهم من قولهم ، لا أنهم قالوا بألسنتهم باطلا ، ولا كذبا ، وكذلك حين أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بقوله : " الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله " ، لم يرد شهادة باللسان كشهادة المنافقين ، ولكن أراد شهادة بدؤها من القلب بالتصديق بالله بأنه واحد .

وليس هذا مما ينقص قوله : " تؤمن بالله " ، لأنه بدأه بأول الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله ، ثم تقر بقلبك ، ولسانك ، فتشهد له بذلك ، فابتدأ الإسلام بالشهادة ، والإيمان بالتصديق ، وهم مجامعونا أنهما جميعا إيمان ، لا يفرقون بين الشهادة التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام ، وبين التصديق الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما ، فهم يجعلونهما جميعا إيمانا ، فما بال ما بقي لما سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما لا يكون إيمانا ، كيف نقصوه ؟ فأضافوا بعض الإسلام إلى الإيمان ، ونفوا باقيه عن الإيمان ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاما كله ، ثم أكد ذلك في قوله لوفد عبد القيس : " أتدرون ما الإيمان بالله وحده " ، ينبئهم [ ص: 709 ] للفهم عنه ، ثم قال : " شهادة أن لا إله إلا الله " ، وما ذكر معها من الإيمان ، ثم فسر ذلك في حديث أبي هريرة ، فقال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة " .

فالعجب لمن طلب الحديث منهم ، أو سمع الآثار ، وإن لم يطلبها ، كيف يسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الإيمان بصفات ، ثم يفرق بينها ، فيؤمن ببعض صفاته ، ويجحد بعضا ، وليست التفرقة بالذي يزيل الاسم ، لأنا قد وجدنا الله ، والرسول يفرقان الصفة في أشياء ، ويوجبان على المؤمنين أن يجمعوها لمن سمى بها باسم واحد .

من ذلك قول الله عز وجل : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) ، ولم يذكر عملا .

وقال : ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ، ورسله ) ، ولم يذكر عملا .

وقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) إلى قوله : ( لهم درجات ) ، فذكر الوجل ، وإقام الصلاة ، والإيمان لله ، والإنفاق لله ، والتوكل عليه ، وأوجب لهم الجنة بذلك . [ ص: 710 ]

وقال : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى قوله : ( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) .

فأوجب لهم الجنة بالأعمال التي ذكرها ، ولم يذكر في هذه الآية الوجل ، والتوكل ، ولم يذكر في الآية التي في الأنفال كل ما ذكر في هذه من الأعمال .

وقال : ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) .

وقال في موضع آخر : ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ) فعم الأعمال في هذه الآية .

وقال الله عز وجل : ( والذين كفروا لهم نار جهنم ) .

وقال في موضع آخر : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) .

وقال : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) .

وقال : ( الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) . [ ص: 711 ]

فقد علمنا أن الكافرين في النار ، وإن لم يصدوا عن سبيل الله .

وقال : ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) ، فالكافر في النار ، ويزداد عذابا بهذه الأفعال ، فهذه صفات أهل النار ، وأعمالهم ، وتلك صفات أهل الجنة ، وإن اختلفت ، فكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بصفات ، فكلها صفات الإيمان ، وإن اختلفت .

فلو قال قائل : لا يدخل الجنة أحد إلا من جمع هذه الأعمال كلها ، أو قال : ليست هذه بأعمال يستحق بها الجنة ، لأنه قد فرقها ، فيرجع إلى الأصل ، يشهد أن من صدق بالله ، وبصفاته كلها ، فهو في الجنة ، فيشهد بالأصل ، ويدع الفروع ، لكان رادا على الله ، قائلا بغير الحق إذا اقتصر على الأصل ، وألقى الفروع .

فكذلك من شهد بأن الإيمان هو الأصل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وألقى سائره ، فلم يشهد أنه إيمان ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمى الإيمان بالأصل ، وبالفروع ، وهو الإقرار ، والأعمال ، فسماه في حديث جبريل بالتصديق ، وسمى الشهادة ، والقيام بما أسمى من الفرائض إسلاما ، وسمى [ ص: 712 ] فيما قال لوفد عبد القيس الشهادة ، وما سمى معها من الفرائض إيمانا ، ثم فسر ذلك في حديث أبي هريرة ، فجعل أصل الإيمان الشهادة ، وسائر الأعمال شعبا ، ثم أخبر أن الإيمان يكمل بعد أصله بالأعمال الصالحة ، فقال في حديث عائشة ، وأبي هريرة : " أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا " في الإيمان ، كأحسنهم خلقا ، فإنه مساوية في الكمال ، فقد عاند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلب ما شهد به بأحسن المؤمنين خلقا ، فجعله لأسوئهم خلقا ، لو كان كما قال ، لكان قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا لا معنى له ، وهو أعلم بالله من ذلك ، ثم حد الإيمان في قلوب أهل النار من المؤمنين ، فأخبر عن الله عز وجل أنه يقول : " أخرجوا من في قلبه مثقال دينار من إيمان ، مثقال نصف دينار ، مثقال شعيرة ، مثقال ذرة ، مثقال خردلة " .

فمن زعم أن ما كان في قلوبهم من الإيمان مستويا في الوزن ، فقد عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بالرد ، ومن قال : الذي في قلبه مثقال ذرة ليس بمؤمن ، ولا مسلم ، فقد رد على الله ، وعلى رسوله ، إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة " ، فقد حرم الله الجنة على الكافرين ، وقد جزأ النبي صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم من الإيمان بالقلة ، والكثرة ، ثم أخبر أن أقلهم إيمانا قد أدخل الجنة ، [ ص: 713 ] فثبت له بذلك اسم الإيمان ، فإذا كان أقلهم إيمانا يستحق الاسم ، والآخرون أكثر منه إيمانا ، دل ذلك أن له أصلا ، وفرعا يستحق اسمه من يأتي بأصله ، ويتأولون في الزيادة بعد أصله ، فتركوا أن يضربوا النخلة مثلا للإيمان ، مثلا كما ضربه الله عز وجل ، ويجعل الإيمان له شعبا كما جعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيشهدوا بالأصل ، وبالفروع ، ويشهدوا بالزيادة إذا أتى بالأعمال ، كما أن النخلة فروعها ، وشعبها أكمل لها ، وهي مزدادة بعد ما ثبت الأصل شعبا ، وفرعا ، فقد كان يحق عليهم أن ينزلوا المؤمن بهذه المنزلة ، فيشهدوا له بالإيمان ، إذ أتى بالإقرار بالقلب ، واللسان ، ويشهدوا له بالزيادة ، كلما ازداد عملا من الأعمال التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم شعبا للإيمان ، وكان كلما ضيع منها شعبة ، علموا أنه من الكمال ، أنقص من غيره ممن قام بها ، فلا يزيلوا عنه اسم الإيمان حتى يزول الأصل ، وليست العشرة مثل الإيمان ، لأنه ليس لها أصل إلا كالفرع : العاشر درهم ، والأول درهم ، فإنما مثل أصلها مثل الفضة ، والفضة كمثل التصديق ، فلو كانت نقرة فيها عشرة ، ثم نقصت حبة لسميت فضة ، لأن الفضة جامع لاسمها ، قلت أم كثرت ، لأنها أصل قائم أبدا ما دام منها شيء ، وليست [ ص: 714 ] العشرة كذلك ليس أولها بأولى من أن يكون أصلا لها من آخرها ، لأنها أجزاء متفرقة ، فكما بدئ بالدرهم الأول بالعدد ، فيجعل الأول هو العاشر ، فليس بعضها بأحق بأن يكون أصلا لبعض من الآخر ، إنما أصلها الفضة .

التالي السابق


الخدمات العلمية