تعظيم قدر الصلاة للمروزي

المروزي - محمد بن نصر بن حجاج المروزي

صفحة جزء
فإن زعموا أنهم إنما سموا الزيادة فيه ، لأنه أتى بمعرفة ، والمعرفة هي الإيمان .

قيل لهم : قد غلطتم من وجهين : أما أحدهما : فإن هذه المعرفة الزائدة لا تخلو من أن تكون مفترضة ، أو غير مفترضة ، فإن كانت غير مفترضة ، فهي معلومة ، وذلك عندكم ما لا يزيد ، وإن كانت ليست مفترضة ، فقد ثبتم إيمانا بالإباحة ، وهل أباح الله لعباده ترك الإيمان من جهة من الجهات ؟ ولو كان مباحا لاستحال أن يكون ضده ، وكان كفر مباح .

* قال أبو عبد الله : ويقال لهم : أخبرونا هل يوصل إلى هيبة شيء ، وتعظيمه ، وخوفه ، ورجائه ، وحبه إلا بخصلتين : إما بمعاينة ، وإما بإيمان له بخبر صادق ، أو [ ص: 752 ] دليل يلزم ؟

فإن قالوا : لا يوصل إلى ذلك ، ولا ينال إلا بما ذكرت .

قلنا لهم : فقد سقطت المعاينة عن العباد ، فلم يعاين أحد منهم الله تبارك وتعالى ، ولم ير الجنة والنار إلا ما خص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإذا سقطت المعاينة لم يكن للعباد وسيلة ينالوا بها الخوف ، والرجاء ، والتعظيم ، والإجلال إلا الإيمان ، فلم يفاوت المؤمنون من صدر هذه الأمة ، وآخرها في الطاعات من الخوف ، والرجاء ، والهيبة ، والحب ، واليقين ، والتوكل على الله ، إذ زال العيان ، ولا وسيلة لهم إلى هذه الأخلاق ، ولا أصل لها ينبعث منه ، ويهيج منه إلا الإيمان ، ولا سبيل إلى معنى ثالث ، لأنه قد ثبت أنه لا ينال خوف ، ولا رجاء ، ولا حب ، ولا غير ذلك إلا بمعاينة ، أو إيمان ، فلم يفاوتوا في هذه الأخلاق ، فرأينا بعضهم خائفا من الله ، مرعوبا ، مجلا له ، مشفقا ، راجيا له ، راغبا فيما عنده ، قد أزعجه خوفه عن كل معصية ، وحمله رجاؤه ، ورغبته على القيام بحق الله .

ورأينا آخرين مقرين لله بوحدانيته ، لا يزايلهم الإقرار ، والتصديق ، وهم في عامة أمورهم آمنون ، لا يخافون الله عند معصية يركبونها ، ولا يبذلون لله الحق فيما يرجون [ ص: 753 ] ثوابه ، فوجدناهم أقل خوفا ، ورجاء ، وإجلالا لله ، وهيبة من الآخرين .

وكل قد يفارقهم الإقرار ، والتصديق ، فلما وجدناهم كذلك ، علمنا أنهم جميعا قد استحقوا اسم الإسلام ، والإيمان ، زايلوا به الجحد ، والتكذيب ، وأنهم قد تفاضلوا بعد استحقاق الاسم في كثرة الإيمان ، وقلته ، وعظيم قدره في القلوب من تعظيم معرفتهم بالتصديق به الذي آمنوا به ، إذ لا تبلغ له غاية معرفة ، فيساويه بالعلم بنفسه جل عن ذلك وتعالى .

فدل تباينهم فيما ذكرنا أنهم لم يتباينوا الإيمان في قلوبهم واحدا ، إذ كانوا لا ينالون ما تباينوا فيه إلا بالإيمان ، إذ سقطت المعاينة ، فبعضهم أفضل من بعض في الإيمان ، أنهم لم يتباينوا في الإقرار بأن الله تبارك وتعالى عندهم حق ، لا باطل ، إلا بالإيمان ، وما قال صدق ، لا كذب ، وبما وعد ، وتوعد من عقابه ، وثوابه ، فاستووا في الإقرار بأن الله حق ، وما قال ، وما تواعد ، ووعد ، ولو دخل بعضهم الريب في ذلك لكفر ، والتفاضل لا يقع بين اثنين حتى يكون في المفضول منهما معنى يساوي به التفاضل ، يستحق به مع الاسم ، ثم يفضل به بأن يكون عنده أفضل مما عند [ ص: 754 ] الآخر ، فيدرك بفضله ، لأنه لا جائز أن يقال : فلان صحيح ، أقوى بصرا من فلان الأعمى ، ولا فلان السميع أقوى سمعا من فلان الأصم ، فكذلك لا يقال : فلان المؤمن أقوى إيمانا من فلان الكافر ، هذا ساقط في التفاضل ، لا يقوله ذو لغة ، ولا معقول ، فإذا كان في كل واحد من هؤلاء ما يستحق به الاسم الذي يزايل به العمى الذي هو ضد البصر ، ولو كان أقل قليله بعد أن يستحق به اسم البصر ، فيزايل به اسم العمى ، فإذا كان كذلك ، جاز أن يقال : فلان البصير أقوى بصرا من فلان ، إذ للمفضول من البصر ما يستحق اسم البصر ، وكذلك القوة ، والسمع ، ولا سبيل إلى استبانة الأشياء ، وإبصارها إلا ببصر ، ولا حمل الأشياء إلا بقوة ، ولا إدراك الأصوات ، والتمييز بينها إلا بسماع .

ولو أن رجلين بصيرين : نظر أحدهما استبان شيئا على قدر ميل ، وأبصره بينا ، ولا يتبين ما فوق ذلك ، ونظر الآخر إليه على رأس ميلين ، فأبصره ، وتبينه ، وأبصر النظر إليه ، فلم يره ، لشهدت العقول اضطرارا على أن المتبين للشيء على رأس ميلين أقوى بصرا من الذي لم يستبن له الشيء إلا على رأس ميل .

وذلك مثل رجل تولى عنهما ، فجعلا يستبينانه جميعا [ ص: 755 ] حتى بلغ رأس الميل ، ثم خفي على أحدهما ، فلم يره ، وجعل الآخر يتبينه حتى رآه على رأس ميلين ، لشهدت العقول أن هذا أقواهما بصرا ، إذ لا سبيل لهما إلى الاستبانة إلا ببصر .

وكذلك لو حمل أحدهما مئة رطل ، فزيد عليه عشرة ، فألقاها ، ولم يطقها ، وزيد على الآخر خمسون أخرى ، لشهدت العقول بأن هذا أشدهما قوة ، وإن كان عند هذا من القوة ما زايل به الزمانة .

وكذلك السمع ، فلما كانت الأبصار لا ينال بها استبانة الأشياء إلا بقدر قواها ، ولا القوي ينال بهذا الحمل إلا بقدر القوى .

وكذلك إدراك الأصوات لا تدرك إلا بقدر قوى الأسماع ، فلما تفاوتوا في ذلك ، شهدت القلوب باضطرار أنهم ليسوا فيها مستوين ، وإن كان في أولها لا يتفاوتون .

فكذلك شهدت العقول إذا تدبرت الإيمان ، وعلمت أنه إذا كان لا ينال خوف ، ولا رجاء لله ، ولا إجلال ، ولا هيبة ، ولا مسارعة إلى طاعة إلا بالإيمان ، إذ سقطت المعاينة ، فكان ما ينال به هذه الأخلاق كلها إيمانا لا غيره . [ ص: 756 ]

فإذا تدبرت العقول ذلك ، شهدت أنهم لولا أن الخائفين ، والمطيعين لله ، فضلوا العاصين الذين قل خوفهم منه ، وتعظيمهم له في الإيمان ، لما تفاوتوا في هذه الأخلاق .

ففي ذلك دليل أنهم فيه متفاوتون ، ولولا ذلك ما كانوا في الخوف ، والرجاء ، والتعظيم ، والإجلال ، والهيبة مختلفين .

فلو جاز أن يستووا في الإيمان ، ولا سبيل إلى هذه الأخلاق إلا به ، ومنه ، ثم يتفاوتون في هذه الأخلاق ، لجاز أن يستووا في قوى الأبصار ، ثم يختلفون في الاستبانة من القرب ، والبعد ، ويستووا في القوى ، ويختلفوا في الحمل ، والكثرة ، والقلة ، فيكونان جميعا في القوة يستويان ، ويختلفان في الحمل ، فيحمل أحدهما خمسمائة رطل ، والآخر لا يطيق إلا مائة ، فإن استحال ذلك ، فكذلك هو في الإيمان مستحيل لا فرقان بينهما .

فإن قال جاهل - لا يعرف اللغة ، ولا التمييز بين الأشياء بالمعقول ، ولا كيف أصول الطاعات ، فقال - : إنما اختلفوا في هذه الأخلاق بالتوفيق ، لأن الله عز وجل وفق بعضهم ، ولم يوفق الآخر . [ ص: 757 ]

قيل لهم : ليس في القدر نازعناكم ، وقد أجمعنا أنه بالتوفيق ، ولكن كيف وفق من كثر خوفه ورجاؤه ، وقوي تعظيمه ، وثقته ، وتوكله بأن ألزم قلبه ذلك ، كما ألزمه ناظر عينه ، لم يكن عن معرفة بما خوف به ، ولا عن ذكر لله ، ولا هو مختار له ، فإن كان كذلك ، فليس بمكتسب ، ولا عامل إلا وفقه بأن وهب له التذكر ، والتفكر ، فعقل عنه ما قال ، فعظمت بذلك معرفته ، وقوي به إيمانه ، فعظم خوفه ، ورجاؤه .

قالوا : جائز أن يلزم ذلك قلبه بلا تذكر ، ولا عن معرفة بما خوف به ، ولا اختيار له ، كالسحرة ألزم قلوبهم الخوف ، لم يتقدم ذلك طلب منهم ، ولا معرفة ، ولا ذكر ، ولا اختيار .

قيل لهم : لو كان كما تقولون ، ما كان ذلك لهم عملا ، ولا مدحوا به ، كما لا جائز أن يكون جمال وجوههم لهم عملا ، ولا صحة أجسامهم .

فإن قالوا : كل حسن يلزمه الله العبد من غير اختيار منه ، ليس من الطاعات ، فليس هو له بعمل ، ولا يثاب عليه ، وكل ما ألزم من الطاعة لله ، فهو له عمل .

قيل لهم : العلتان واحدة ، وإنما أنتم تدعون ، ولم تأتوا بتفرقة ، وقد دل الكتاب على خلاف ما قلتم ، لأن الله [ ص: 758 ] وصف الخائفين بالتذكر ، والتفكر ، وأخرج منهم من ليس بمتذكر ، ولا متفكر ، فقال : ( لآيات لقوم يتفكرون ) .

فمن زعم أنه من عقل ، ولم يتفكر ، كان الله فيما قال الله عز وجل آية ، فقد عارض الله ، وما قال برد ، وقد أخبرنا عن السحرة بما يدل على كذب دعواكم لقولهم : ( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ) ، فلا شاهد على قلوبهم أصدق من الله ، يخبرك أنهم آمنوا بقصد من قلوبهم ، واختيار منهم للإيمان ، أراد منهم أن يغفر لهم ، ثم قالوا : ( إنه من يأت ربه مجرما ) فعبروا عن عقلهم عن الله الوعد ، والوعيد ، فهذا الاكتساب ، وما سواه اضطرارا .

التالي السابق


الخدمات العلمية