1. الرئيسية
  2. التوحيد لابن خزيمة
  3. باب ذكر أخبار رويت أيضا في حرمان الجنة على من ارتكب بعض المعاصي ، التي لا تزيل الإيمان بأسره
صفحة جزء
24 - ( 590 ) : حدثنا أبو موسى ، محمد بن المثنى ، قال : حدثني عباس بن الوليد ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد قال : ثنا قتادة عن أنس ، أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : أنبئني عن حارثة أصيب يوم بدر ، فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء ، فقال : " يا أم حارثة : إنها جنان في جنة ، وإنه أصاب الفردوس الأعلى " .

قال أبو بكر : قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد ، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة ، وبعد ما بين الدرجتين ، (وأمليت [ ص: 875 ] أخبار النبي صلى الله عليه وسلم : أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف ، كما تراءون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء لتفاضل ما بينهما ، وقول بعض أصحابه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ، قال : بلى ، رجال آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين) .

وأمليت أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام .

فمعني هذه الأخبار - التي فيها ذكر بعض الذنوب الذي يرتكبه بعض المؤمنين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم يعني قال : إن مرتكبه لا يدخل الجنة ، معناها أنه لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والخطايا ، والحوبات ، وقد كنت أقول - وأنا حدث - جائز أن يكون معنى إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " : أى لا يدخل النار دخول الأبد ، كدخول أهل الشرك والأوثان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :

" أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون "

الأخبار التي قد أمليتها بتمامها أو يكون معناها أى : لا يدخلون النار موضع الكفار والمشركين من النار ، إذ الله عز وجل قد أعلم أن للنار سبعة أبواب وأخبر أن لكل باب منهم جزءا مقسوما ، فقال : لها سبعة أبواب . . ، [ ص: 876 ] فمعنى هذا الخبر : قد يكون أنهم لا يدخلون النار موضع الكفار منها ، لأن العلم محيط أن من لم يدخل موضعا ولم يقل لم يخرج ، قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم في الأخبار المتواترة التي لا يدفعها عالم بالأخبار أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فإذا استحال أن يخرج من موضع لم يدخل فيه ، ثبت وبان وصح : أن يخرج من النار ممن كان في قلبه ذرة من إيمان إنما أخرج من موضع النار غير الموضع الذي خبر النبي - صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل ذلك الموضع من النار .

فالتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم على ما قد بينا ، وبيقين يعلم كل عالم بلغة العرب : أن جائزا أن يقول القائل لا أدخل الدار إنما يريد بعض الدور ، كذلك يقول أبضا : لا أدخل دار فلان . ولفلان دور ذوات عدد ، إنما يريد أني لا أدخل بعض دوره ، لا أنه إنما يريد لا أدخل شيئا من دور فلان . والصادق عند السامع الذي لا يتهم بكذب إذا سمعه يقول : لا أدخل دار فلان ، ثم يقول بعد مدة قصيرة أو طويلة أدخل دار فلان ، لم يتوهم من سمع من الصادق هاتين اللفظتين أن إحداهما خلاف الأخرى ، إذا كان المتكلم بهاتين اللفظتين عندهم ورعا ، دينا ، فاضلا صادقا ، ويعلم من سمعه ممن يعلم أنه لا يكذب أنه إنما أراد بقوله : لا أدخل دار فلان - إذا سمع اللفظة الثانية أدخل دار فلان - أنه أراد بالدار التي ذكر أنه لا يدخلها غير الدار التي ذكر أنه يدخلها ، فإذا كان معلوما [ ص: 877 ] عند السامعين إذا سمعوا الصادق البار عندهم يتكلم بهاتين اللفظتين أنهما ليستا بمتناقضتين ولا متهاترتين وأنهم يحملون اللفظتين جميعا على الصدق ، ويؤلفون بينهما أنه إنما أراد بالدار التي ذكر أنه لا يدخلها غير الدار التي ذكر أنه يدخلها ، وجب على كل مسلم يقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم ويستيقن أنه أبر الخلق ، وأصدقهم وأبعدهم من الكذب ، والتكلم بالتكاذب والتناقض أن يعلم ويستيقن أن النبي - صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " يريد : لا يدخل شيئا من المواضع التي يقع عليها اسم النار ، ثم يقول : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " لأن اللفظتين اللتين رويتا عنه إذا حملتا على هذا : كانت إحداهما دافعة للأخرى ، فإذا تؤولتا على ما ذكرنا كانتا متفقتي المعنى ، وكانتا من ألفاظ العام التي يراد بها الخاص . فافهموا هذا الفصل ، لا تخدعوا فتضلوا عن سواء السبيل .

ونقول أيضا : معلوم متيقن عند العرب أن المرء قد يقول : " لا أدخل موضع كذا وكذا ، ولا يدخل فلان موضع كذا وكذا : يريد مدة من المدد ووقتا من الأوقات .

قد يجوز أن يقول صلى الله عليه وسلم من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة : يريد لم يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها من لم يرتكب هذه الحوبة ، لأنه يحبس عن دخول الجنة ، إما للمحاسبة على الذنب ، أو لإدخال النار ليعذب بقدر ذلك الذنب ، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب النار - إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم ، فيغفر ذلك الذنب .

[ ص: 878 ] فمعني هذه الأخبار لم يخل من أحد هذه المعاني ، لأنها إذا لم تحمل على بعض هذه المعاني كانت على التهاتر والتكاذب . وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم على ما قال علي بن أبي طالب : (إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية