أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
تأويل قوله تعالى : ( فرجالا أو ركبانا )

قال الله جل ثناؤه : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) فأما قوله : ( فرجالا ) فذلك على الصلاة على الأرض على ما يصلي عليه الخائف وغير الخائف من صلاة الأمن ومن صلاة الخوف على ما بينا في كتابنا هذا في صلاة كل واحد منهما .

وأما قوله : ( أو ركبانا ) فإنه - جل وعز - أباح للخائف الراكب أن يصلي راكبا في حال الخوف ، كما يصلي المسافر التطوع في سفره راكبا ، وحيث توجهت به راحلته أو دابته . فإن قال قائل : فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل يوم قاتل الأحزاب ، وهو يوم الخندق حتى ذهب الوقت الذي يصلى فيه العصر راكبا وذكر في ذلك ما :

435 - حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا زائدة بن قدامة ، قال : سمعت عاصما يحدث ، عن زر ، عن علي - رضي الله عنه - ، قال : قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن [ ص: 228 ] العصر حتى كربت الشمس أن تغيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا ، واملأ بيوتهم نارا ، واملأ قبورهم نارا " .

قال علي - رضي الله عنه - : كنا نرى أنها صلاة الفجر .

436 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن علي - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قعد يوم الخندق على فرضة من فرائض الخندق ، فقال : " شغلونا عن الصلاة حتى كربت الشمس أن تغيب اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا ، واملأ بيوتهم نارا ، واملأ قبورهم نارا " .

437 - حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا معلى بن منصور الرازي ، قال حدثنا أبو عوانة ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة فلم يرفع منها ، حتى مشى بصلاة العصر عن الوقت الذي كان يصليها فيه ، فقال : " اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا ، واملأ بيوتهم نارا ، واملأ قبورهم نارا " .

438 - حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور السلولي ، قال : حدثنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركون يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غربت الشمس ، فقال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى حشا الله - عز وجل - أجوافهم وقبورهم نارا " .

439 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن محمد بن طلحة ، فذكر بإسناده مثله [ ص: 229 ] .

440 - حدثنا علي بن معبد ، وفهد ، قالا : حدثنا علي بن معبد بن شداد ، قال : حدثنا عبد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عدي بن ثابت ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الخندق ، يقول : " شغلونا عن صلاة العصر " ، قال : ولم يصلها يومئذ حتى غابت الشمس ، " ملأ الله قبورهم نارا ، وقلوبهم نارا ، وبيوتهم نارا " .

قيل له : كان هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينزل الله - عز وجل - عليه ( فرجالا أو ركبانا ) ، وقد بين ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - .

441 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، قال : " حبسنا يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل حتى كفينا ، وذلك قول الله - عز وجل - : ( وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا ، فأقام الظهر فصلاها ، فأحسن صلاتها كما كان يصليها بالأمس ، ثم أمره فأقام العصر فصلاها كذلك . ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك " .

وذلك قبل أن ينزل الله - عز وجل - في صلاة الخوف : ( فرجالا أو ركبانا ) .


442 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر ، وبشر بن عمر الزهراني ، عن ابن أبي ذئب ، فذكر بإسناده مثله .

443 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : قرأت على ابن أبي ذئب ، ثم ذكر بإسناده مثله .

ففي هذا الحديث أن نزول قول الله - عز وجل - : ( فرجالا أو ركبانا ) إنما كان بعد يوم الخندق ، فثبت بذلك أن ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تركه من الصلوات يومئذ ، إنما كان قبل أن يباح لهم ذلك ، لأن حكمها كان يومئذ أن تصلى على الأرض ، ثم أباح الله - عز وجل - للخائف أن يصليها على راحلته ، فعاد حكمها في تأديتها على [ ص: 230 ] الراحلة إلى حكم التطوع الذي يصلى على الراحلة على ما ذكرنا من كيفيته ، ومن إباحة استدبار القبلة فيما تقدم منا في كتابنا هذا .

وإنما تكون هذه الصلاة المكتوبة على الراحلة على ما ذكرنا في حال الخوف من النزول ، وكذلك ما أشبهه من الخوف من السباع إذا خيف اقترابها مع النزول .

444 - وقد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف ، ثم ذكر الذي ذكرناه عن ابن عمر في صلاة الخوف في الباب الذي قبل هذا .

قال : وإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها .

قال نافع : لا أدري عبد الله بن عمر ، قال ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله على الخوف الذي لا قتال معه ، لقوله - عز وجل - : ( فإن خفتم ) ، فذكر الخوف خاصة دون القتال ، فأما إن كان يقاتل فإنه لا يصلي حتى ينقضي ما هو فيه من القتال ، فإن أدرك وقت الصلاة صلاها ، وإن فاتته قضاها ، لأن القتال عمل تفسد به الصلاة ، وهذا كله قول أبي حنيفة ، وزفر ، وأبي يوسف ، ومحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية