أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد قال قائل : إن هذه الآية إنما أنزلت في الصلاة المفروضة إذا أطاق أن يصليها قائما صلاها قائما ، وإن عجز عن ذلك صلاها قاعدا ، وإن عجز عن ذلك صلاها على جنبه يومئ إيماء ، واحتج في ذلك بما : [ ص: 231 ] .

445 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : رأى ابن مسعود قوما يدعون قياما فنهاهم ، فقالوا : أليس قد قال الله - عز وجل - : ( فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) .

قال : " إنما ذلك في الصلاة المكتوبة ، صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فمضطجعا " .

وقالوا مثل ذلك الآية الأخرى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) . قالوا : وقد سد ذلك ما روي عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكروا في ذلك ما :

446 - حدثنا محمد بن النعمان ، قال : حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري ، قال : حدثنا وكيع ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن حسين المعلم ، عن ابن بريدة ، عن عمران ، قال : كان بي الباسور ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة ، فقال : " صل قائما ، فإن لم تقدر فقاعدا ، فإن لم تقدر فعلى جنب " .

فكان من الحجة عليهم للآخرين أن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي ذكروا ليس مما يحتج بمثله ، لأنه لا مخرج له ، ولا اتصال عن ابن مسعود ، ولأن جويبرا حديثه عندهم كما يقولون فيه ، ولأن الضحاك - رضي الله عنه - لم يولد في أيام ابن مسعود ، ولأن الآية المذكورة في حديث ابن مسعود ليست هي الآية التي ترجمنا بها هذا الباب ، وكيف يجوز لهم تأويل هذه الآية التي ترجمنا بها هذا الباب ، على ما تأولوا عليه ، وظاهرها خلاف ذلك ، لأن الله - عز وجل - إنما ذكر قبلها خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وأخبر أن في ذلك آيات لأولي الألباب ، ثم وصفهم - عز وجل - بالتفكر والتذكر فيما ذكره - عز وجل - في الآية ومداومة ذلك على كل الأحوال التي يكون الناس عليها من القيام والقعود والاضطجاع .

وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن المراد بها هو الذكر لله - عز وجل - على هذه الأحوال ، وذلك :

447 - أن أبا بكرة حدثنا ، قال : حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الكوفي ، وأن ابن معبد حدثنا ، قال : حدثنا شبابة بن سوار المدائني ، وأن فهدا حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قالوا : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن المنهال بن عمرو ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، قال : أمرني العباس أن أبيت بآل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال شبابة : يعني : في منزله [ ص: 232 ] .

قال ابن عباس : وتقدم إلى الأيتام حتى تحفظ لي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فصليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، فلما قضى صلاته ، وانصرف الناس فلم يبق في المسجد أحد غيري .

قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من هذا أعبد الله ؟ " فقلت : نعم قال : " فمه ؟ " قال : فقلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة ، قال : " فالحق إذا " قال : فدخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أمر يشق يا عبد الله " قال : فأتيت بوسادة من مسوح حشوها الليف قال : فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعت غطيطه أو خطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعدا ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، فقال : " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات ، وقرأ هذه الآيات من آخر سورة آل عمران ( إن في خلق السماوات والأرض ) حتى ختم السورة " .


ففي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع رأسه ، ثم ذكر الله - عز وجل - بالتسبيح والتقديس ، وقرأ الآيات التي فيها صفة المتفكرين في خلق السماوات والأرض ، والذاكرين الله - عز وجل - مع ذلك وأما الآية الأخرى فهي على هذا المعنى الذي ذهبنا إليه أدل منها على المعنى الذي ذهب إليه مخالفنا فيها ، لأنه - عز وجل - قال : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) . فدل ذلك على أنه إنما أمرهم بالذكر بعد الصلاة ، وكان ذلك على أن يعموا بالذكر أحوالهم التي يكونون عليها من القيام والقعود والاضطجاع على الجنوب .

وأما حديث عمران الذي ذكروه فإنما وجدناه كما ذكروا من حديث ابن طهمان خاصة ، وقد رواه عيسى بن يونس وهو أضبط وأثبت منه ، على خلاف ذلك ، وذلك أن علي بن عبد الرحمن :

448 - حدثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، قال : حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة ، عن عمران بن حصين ، قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل وهو قاعد ، فقال : " من صلى قائما فهو أفضل ، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد " .

فهذا حديث حسين المعلم قد رواه عن عيسى على غير ما رواه ابن طهمان ، ومعناه عندنا والله أعلم على التطوع ، لذكره الفضل للقائم على القاعد فيه ، وليس ذلك إلا [ ص: 233 ] على القاعد المطيق للقيام .

فأما القاعد العاجز عن القيام ، فليس القائم المطيق للقيام بأفضل منه في صلاته قائما ، ولا المصلي نائما بأفضل من المصلي مضطجعا ، وإذا كان لا يطيق الصلاة إلا كما صلى فالذي بين معنى الحديث على ما رواه ابن طهمان وعلى ما رواه عيسى متباين بعيد ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية