أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد احتج من يذهب إلى قول كل واحد منهما لقوله الذي حكيناه في هذا الباب بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي كتبه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنس لما ولاه : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية .

629 - حدثنا بذلك إبراهيم ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن ثمامة ، عن أنس ، أن أبا بكر لما استخلف ، وجه أنسا إلى البحرين ، فكتب له هذا الكتاب : " هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها " .

فذكر فيها هذا الكلام الذي ذكرناه .

630 - حدثنا الربيع المرادي ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخذت من ثمامة كتابا زعم أن أبا بكر ، كتبه لأنس حيث بعثه مصدقا وعليه خاتم أبي بكر وخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتبه له ، فإذا فيه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله - عز وجل - بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المسلمين فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطها ثم ذكر هذا الكلام أيضا .

631 - حدثنا أبو بكرة ، حدثنا ابن عمر ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أرسلني ثابت إلى ثمامة ليبعث إليه بكتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس حيث بعثه مصدقا ، فدفعه إليه ، ثم ذكر مثله .

632 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أخبره أن هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو في الصدقة ، " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، ولا تخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق ، وما كان من خليطين فإنهما [ ص: 315 ] يتراجعان بينهما بالسوية " .

633 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، وعبد الله ابني ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ذلك .

أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أن لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وأن يتراجع الخليطان بينهما بالسوية ، فاستدلا بذلك يعني : مالكا ، والشافعي ، على أن حكم الخليطين في المواشي خلاف حكمهما لو كانا منفردين غير خليطين .

يقال لهما : قد قبل العلماء جميعا هذا الكلام الذي ذكرتموه في الخليطين جميعا ، وصححوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه مختلف في تأويله .

فقال بعضهم : أما قوله : " لا يفرق بين مجتمع " ، فأن يكون للرجل الواحد مائة شاة وعشرون شاة ، ففيها شاة واحدة ، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ، لتكون فيها ثلاث شياه فقد فرق بين مجتمع ، فذلك حرام عليه .

وأما قوله : " ولا يجمع بين متفرق " ، فالرجلان يكون لكل واحد منهما أربعون ، فتكون عليهما شاتان فيجمعانها لتكون عليهما شاة واحدة ، فإذا فعلا ذلك فقد جمعا بين متفرق ، فذلك حرام عليهما .

وذهب قائلوا هذا القول في تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خشية الصدقة " ، إلى أن الخشية في هذا : هي في كثرة الصدقة في أرباب الماشية ، وفي قلتها من المصدق ، وممن قال هذا القول أبو حنيفة ، حدثناه بذلك سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة غير ما ذكرناه في تأويل " خشية الصدقة " ، فإن ذلك مما لم يحكه لنا سليمان ، ولم يحك سليمان فيما حكى لنا مما ذكرنا اختلافا بين أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد .

وأما أصحاب الإملاء منهم بشر بن الوليد الكندي ، فحكوا عن أبي يوسف أنه أملا عليهم في تأويل هذا الحديث كما حدثنا جعفر بن أحمد بن الوليد ، قال : حدثنا بشر بن الوليد ، قال : سمعت أبا يوسف ، قال : هو أن يكون للرجل ثمانون شاة ، فإذا جاءه المصدق ، قال : هي بيني وبين إخوتي ، لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها ، أو يكون له أربعون [ ص: 316 ] ولأخيه أربعون ولأخ له آخر أربعون ، فتكون جملتها مائة وعشرين شاة ، فيكون الذي يجب عليهم فيها ثلاث شياه ، فإذا جاءها المصدق جمعها ، فقال : هذه كلها لي ، والذي علي فيها شاة واحدة ، فهذه خشية الصدقة ؛ لأن الذي تؤخذ منه الصدقة هو الذي يخشى الصدقة .

وأما مالك رحمه الله فروي عنه ما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال أخبرني مالك ، قال : أما " لا يفرق بين مجتمع " فأن يكون الخليطان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة ، فيكون عليهما في ذلك ثلاث شياه ، فإذا أظلهم المصدق فرقوا غنمهما ، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ، فنهي عن ذلك وقيل : لا يفرق بين مجتمع ، وأما لا يجمع بين متفرق ، فأن ينطلق الثلاثة الذين لكل واحد منهم أربعون شاة قد وجب على كل واحد منهم في غنمه الصدقة ، فإذا أظلهم المصدق جمعوا جميعا ، لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة .

قال مالك رحمه الله : فهذا الذي سمعت في ذلك .

وأما الشافعي فروي عنه في ذلك ما حكاه لنا المزني ، أنه قال : معنى " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة " : لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة ، وإنما عليهم شاة ، لأنهم إذا افترقت كان فيها ثلاث شياه ، ولا يجمع بين متفرق : فرجل له مائة شاة وشاة ، ورجل مائة شاة ، فإذا تركنا مفترقين ففيها شاتان ، وإذا جمعنا ففيها ثلاث شياه ، فالخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة ، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة ، فأمر أن نقر كلا على حاله .

فهذه أقوال قد رويت عن أهل العلم في تأويل " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وكلهم فقد قبل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم وخالف أصحابه في تأويله .

ولما اختلفوا في تأويل ذلك ولم نجد فيما اختلفوا فيه نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اختلافهم فيه ، وكان القياس في ذلك يدل على ما قال بعضهم في أن لا حكم للمراح والدلو ولا للفحل ، وأن الحكم في ذلك للأملاك لا لما سواها ، كان قول من ذهب إلى ذلك أولى من قول من خالفه .

وأما قوله : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " ، فإن أبا حنيفة ، وأبا يوسف ، ومحمدا ، كانوا يقولون تأويل ذلك : أن يكون بين الرجلين مائة وعشرون شاة سائمة شائعة بينهما غير مقسومة لواحد منهما ثلثاها وللآخر منهما ثلثها فيحول عليها الحول ، وتجب فيها الزكاة ، فتكون فيها شاتان على كل واحد منهما شاة ، فلا يكون على المصدق أن [ ص: 317 ] يقسم الغنم بينهما قبل أن يأخذ منهما زكاتهما ، حتى يكون لصاحب الثمانين منها ثمانون شاة بأعيانها ، فيأخذ منها شاة ، وحتى يكون لصاحب الأربعين الشاة منها أربعون شاة بأعيانها فيأخذ منها شاة ، إنما عليه أن يأخذ منها شاتين من جملتها ، فيكون قد أخذ من غنم صاحب الثمانين ثلثيهما وهو شاة وثلث وأخذ من غنم صاحب الأربعين ثلثهما وهو ثلثا شاة ، والذي كان وجب على صاحب الثمانين شاة منها شاة ، والذي كان وجب على صاحب الأربعين شاة منهما شاة ، فرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين بالثلث الشاة الذي أخذه المصدق ، فضلا عما كان وجب عليه ، لأنه إنما أخذه منه عن صاحبه مما كان وجب على صاحبه ، فإذا تراجعا ذلك كذلك رجعت الغنم بينهما إلى أن صار لصاحب الثمانين منها تسع وسبعون شاة ، وهذا الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة ، ولصاحب الأربعين تسع وثلاثون شاة وهو الباقي له بعد الذي كان وجب عليه من الزكاة .

قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " .

وأما مذهب مخالفيهم في ذلك فإن الخليطين المعينين في هذا هما الخليطان بالمراح ، والفحول ، والراعي ، لا بأعيان الغنم ، ويكونان مع ذلك يريحان ، ويسرحان ، ويحلبان معا ، فيكونان بذلك خليطين ، لا باختلاط الغنمين ، ويحضر المصدق فيصدق الغنم بما يجب عليها من الصدقة ، ويأخذ من غنم أحدهما ، فرجع المأخوذ ذلك من غنمه على صاحبه في غنمه الذي أخذه المصدق مما كان وجب على صاحبه .

قالوا : فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " وما كان من خليطين يتراجعان بينهما بالسوية " . قد دخل فيه عند هؤلاء القائلين : الخليطان بالمراح وبما سواه مما ذكرنا ، غير اختلاط الغنم ، كان اختلاط الغنم في ذلك أولى أن يكون الشريكان فيه خليطين ، لأن الخلطة بها لا ينفرد فيه واحد من الشريكين ، أولى مما ينفرد به واحد من الشريكين عن صاحبه ، وإذا ثبت ذلك كان التأويل الأول أولى بالحديث من التأويل الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية