أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
ولما اختلفوا في ذلك ووجدنا الحجة قد قامت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " إنما الولاء لمن أعتق " .

عقلنا بذلك أنه لا يكون ولاء نسمة قد أعتقها رجل لغيره ، فاستحال بذلك أن يكون [ ص: 366 ] للمسلمين جميعا ولاء ما أعتق بعضهم ، ولما انتفى ما وصفنا ثبت القول الآخر ، وأن المراد بالرقاب هو المعونة للمكاتبين ، كما قد حض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيما :

766 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، عن عمرو بن ثابت ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، أن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف حدثه ، أن أباه حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أعان مكاتبا في رقبته ، أو غارما في عسرته ، أو مجاهدا في سبيل الله - عز وجل - أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " .

767 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن ابن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

فعقلنا بهذا الحديث أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوها بأدائهم عنها وكما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما :

768 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثني طلحة بن الأمامي ، عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب ، قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : علمني عملا يدخلني الجنة ، فقال : " وإن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة ، أعتق النسمة ، وفك الرقبة " ، قال : أوليسا واحدا ؟

قال : " لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير " .


فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عتاق النسمة غير فكاك الرقبة ، وجعل تحريرها فيه عتاقها كما جعله الله - عز وجل - في كتابه في الكفارة في الظهار ، وفي القتل خطأ ، وفي الأيمان ، وكما أوجبه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكفارة بالإفطار في شهر رمضان .

وجعل فكاك الرقبة المعونة في ثمنها الذي يعتق به كما يفك المرهون بالديون التي هي محبوسة بها [ ص: 367 ] .

وعقلنا بذلك أن تأويل قول الله - عز وجل - : ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة ) إن ذلك إلا فكاك للرقبة ، هو هذا المعنى ، لا ابتياعها وعتاقها ، والله أعلم .

ولم يرد في الحديث الذي روينا والله أعلم بالمعونة ، وثمن الرقبة الثمن الذي يبتاع به ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن معونة للرقبة ، وإنما كان معونة لمبتاعها الذي قد تحرم عليه الصدقة ، أو قد تحل له ، والذي قد عسى أن يعتقها بعد ابتياعها إياها ، أو يموت قبل أن يعتقها فتعود ميراثا عنه ، أو يأبى في حياته عتقها فلا يجبر على ذلك ، فلا يحكم به عليه ، أو تحدث به حادثة قبل عتقه إياها تمنعه من عتاقها كذهاب عقله وما أشبهه ، عقلنا بذلك أن الفكاك هو ملكية الرقبة حتى يتولى فكاكها به ، لا ما سواه ، ولا يكون ذلك إلا وقد تقدم في الرقبة ما يوجب لها الملك لما يملك ، حتى يفك به الرق عنها ، وهو الكتابة لا غيرها .

وكذلك ما جعل الله جل وعز في الآية التي تلونا في الرقاب هو من هذا الجنس وهو ما ملكته الرقاب ، فلا يملك الرقاب ما يؤديه عن أنفسها حتى يعتق به ، إلا وهي مكاتبة قبل ذلك .

وقد ذكر الله - عز وجل - في هذه الآية في : ( الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية فكان ما أريد به من ذلك هو ما يملكونه ، فكان أولى الأشياء بنا في الرقاب أن يجعل ما أريدت به فيها هو ما يملكه ، ولا يكون ذلك كذلك إلا وقد تقدمت المكاتبات فيها ، فيثبت بذلك أن أولى التأويلين بقوله - عز وجل - : ( وفي الرقاب ) هو ما ذهب إليه الذين جعلوها في المكاتبين .

وأما قوله : ( والغارمين ) فهم المدينون ، لا اختلاف في ذلك بين أهل العلم علمناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية