أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وأما قوله : ( وفي سبيل الله ) فهو المعونة لأهل سبيل الله ، وهي طاعته ، فمنهم المجاهدون فيدفع إليهم منها ما يستعينون به على جهادهم ، ويكون الذي يدفع إليهم من ذلك ملكا لهم ، ومن مات منهم بعد ملكه إياه قبل أن يصرفه في النفقة على نفسه في جهاده كان من تركته ، وجرى فيه ما يجرى في تركته .

فإن قال قائل : فكيف يملكه المدفوع إليه ؟ وإنما دفع إليه على أنه لسبيل الله - عز وجل - ؟ .

قيل له : لم يدفع إليه على أنه غير مالك له ، إنما دفع إليه ليملكه ، ثم يصرفه بعد ذلك في سبيل الله - عز وجل - [ ص: 368 ] .

ألا ترى أنه لو كان غنيا لم يجز أن يعطى من هذا شيئا إذا كانت الصدقة حراما عليه ، وإنما يعطاه إذا كان فقيرا ، وإذا أعسر فيما ذكرنا غنى المعطي وفقره لمن يكن ذلك إلا أنه يملك ما أعطى منه .

وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على هذا المعنى في ملك المعطى في سبيل الله - عز وجل - ما يعطى فيه :

769 - حدثنا يزيد بن سنان ، ونصر بن مرزوق ، وابن أبي داود ، قالوا : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر كان يحدث ، أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله ، فوجده يباع بعد ذلك ، فأراد أن يشتريه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأمره في ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تعد في صدقتك " .

770 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : سمعت عمر - رضي الله عنه - ، يقول : حملت على فرس في سبيل الله - عز وجل - ، فأضاعه الذي كان عنده ، فظننت أنه بائعه برخص ، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم واحد ، ولا تعد في صدقتك ، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه " .

771 - حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا خلف بن هشام البزار ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : حملت على فرس في سبيل الله ، وكنا إذا حملنا في سبيل الله أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفعناه إليه فيضعه حيث أراه الله - عز وجل - ، فجئت بفرس فدفعتها إليه ، فحمل عليها رجلا من أصحابه ، فوافقته يبيعها في السوق ، فأردت أن أشتريها منه ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : " لا تشترها ، ولا تعد في صدقتك " . [ ص: 369 ] .

772 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عبد الله بن عمر ، عن الزبير بن العوام ، أنه " حمل على فرس في سبيل الله - عز وجل - ، فرأى فرسا أو مهرا فأراد شراءها فنهي عنها " .

773 - حدثنا محمد بن علي ، قال : حدثنا الليث بن داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم بن عيينة ، عن يحيى بن الحراز ، عن عبد الله بن معقل ، عن أسامة بن زيد بن حارثة ، أنه " حمل على فرس في سبيل الله - عز وجل - ، فأراد أن يشتري فلوها فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

774 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الله بن أسامة أو زيد ، " حمل على فرس ، ثم ذكر مثله ولم يذكر يحيى بن الحراز .

أفلا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع المحمول على الفرس في سبيل الله من بيعها من غير الذي حمله عليها إذا كان قد ملكها ، وإنما منعه من الذي حمله عليها لكراهية أن يعود إلى ملكه شيء قد أخرجه من ملكه إلى الله - عز وجل - بإعادته إياه إلى ملكه .

ومنهم الحاج المنقطع بهم ، فيدفع إليهم منها ما يستعينون على حجهم ، ويكون الذي يدفع إليهم من ذلك ملكا لهم على مثل ما ذكرنا فيما يدفع إلى المجاهدين في سبيل الله . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما مثل هذا .

775 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أنس بن سيرين ، قال : أوصى إلي رجل بماله وقال : اجعله في سبيل الله ، فسألت ابن عمر ذلك ، فقال : " إن الحج من سبيل الله - عز وجل - ، فاجعله منه " .

776 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب ، عن ابن أبي نعيم ، قال : كنت جالسا عند ابن عمر ، إذ أتته امرأة ، فقالت : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي مات [ ص: 370 ] وأوصى بماله في سبيل الله - عز وجل - ، فقال : " أنفقيه على حجاج بيت الله - عز وجل - العتيق " .

فهذا ابن عمر قد جعل الحج من سبيل الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية