أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يجعل تأويل هذه الآية على ما ذكرتم ، ويجعل فرض الصيام قد لحق من لا يطيق الصيام ، وقد روينا فيمن عجز عن الصلاة ، ولم يطقها على حال ، حتى مات أنه ممن قد زال فرضها عنه ؟ قيل له : الصلاة في هذا لا تشبه الصيام ، لأن الصلاة لم يجعل لها بدل سواها فيرجع من عجز عنها إلى ذلك البدل عنها ، والصوم فقد جعل له بدل وهو الإطعام ، فكان من عجز عن الصوم ، فلم يقدر عليه رجع إلى بدله الذي يقدر عليه وهو الإطعام ، وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد رحمهم الله يقولون في الشيخ الكبير العاجز عن الصوم ، لا يرجى له عليه قوة في المستأنف : أنه يطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من بر أو سويق ، أو دقيق ، أو صاعا من تمر ، أو شعير فيما حدثنا سليمان ، عن أبيه ، عن محمد ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعن أبيه ، عن محمد من رأيه مما ذكرنا عنهم .

وقد خالفهم في ذلك مخالفون ، منهم مالك رحمه الله كما :

922 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، أنه بلغه أن أنسا كبر حتى كان لا يقدر على الصيام ، وكان يفتدي .

قال مالك : ولا أرى ذلك واجبا على الناس ، وأحب إلي أن يفعله من قوي عليه ، فمن افتدى ، فإنما يطعم كل يوم مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم .

فأما الثوري ، والشافعي ، فكان قولهما في ذلك كقول أبي حنيفة .

923 - كما حدثنا أبو غسان ، عن أبي النضر ، عن الأشجعي ، قال سفيان : " الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام أطعم عن نفسه " .

وكما حكى لنا المزني ، عن الشافعي في مختصره قوله قال : والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم ، ويقدر على الكفارة يتصدق عن كل يوم بمد من حنطة [ ص: 424 ] .

وهو القول الذي حكيناه عن أبي حنيفة ، والثوري ، ومن ذكرناه معهما ، فأحب القولين اللذين ذكرناهما في هذا المعنى إلينا إذا كانوا جميعا قد أمروا بالإطعام في ذلك إما إيجابا ، وإما استحبابا ، ولم يجعلوا ذلك كالصلاة التي يلحق العجز عنها ، فلم يأمروا مكانها ببدل سواها إيجابا ، ولا استحبابا ، وعاد بما ذكرنا حكم الصيام المعجوز عنه الذي يقدر العاجز عنه إلى ما يحج به غيره عنه .

وقد سألت امرأة من خثعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أبي شيخ كبير وقد أدركت فريضة الله - عز وجل - في الحج ، أفيجزئ أن أحج عنه ؟ قال : " حجي عن أبيك " هكذا في حديث ابن الزبير ، وفي حديث علي بن أبي طالب ، أن رجلا من خثعم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج عليه مكتوب أفأحج عنه ؟ قال : " نعم ، فاحجج عنه " .

وسنذكر ذلك بأسانيده ، وما فيه سوى هذين الحديثين في موضعه من كتاب المناسك من كتاب أحكام القرآن إن شاء الله تعالى .

فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خوطب بأن الحج مكتوب على عاجز يؤديه عنه ، فلم ينكر ذلك على من خاطبه به إذا كان من سنته ، صلى الله عليه وسلم ، الحج عن العاجز ، وكذلك الصيام لما كان من السنة الإطعام عن العاجز عنه ، لم يكن الفرض فيه ساقطا عن العاجز عنه إذا كان ، وإن عجز عنه ، قادرا عن البدل منه وهو الإطعام .

التالي السابق


الخدمات العلمية