أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد روي عن المتقدمين في هذا اختلاف فيما روي في ذلك ما :

943 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو أنس قريش بن أنس ، عن أشعث ، عن الحسن ، " في الرجل يوصي أن عليه حجة الإسلام ، أو عليه زكاة ، قال الحسن : نقول : " يعطيان من جميع المال ، أوصى بذلك أو لم يوص به إذا علم أنه عليه " .

944 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، مثله .

945 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن الأعلم ، عن الحسن ، قال : " هو من جميع المال يعني : الحج " ، قال : والزكاة كذلك .

946 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال أخبرني قيس ، عن عطاء ، " في رجل أوصى أن يحج عنه ولم يكن حج الفريضة ، قال : " يحج عنه من جميع المال ، والزكاة مثل ذلك " .

947 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن قيس ، عن عطاء ، في الرجل يموت وعليه الحجة ، والنذر ، أنه قال : " هو من جميع المال " .

948 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في الرجل يموت وعليه الحج والنذر ، قال : " لا يقضى عنه إلا أن يوصي به ، فإن أوصى به فمن الثلث " . [ ص: 431 ]

949 - حدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد ، عن حماد ، وداود ، والليثي ، وحميد ، أنهم قالوا : " هو من الثلث " .

ولما اختلفوا فيما ذكرنا نظرنا فيما اختلفوا فيه منه ، فأما من قال : إنه لا يجب في مال الميت إلا أن يوصي به فيكون في ثلثه مبدأ على سائر وصاياه ، فلا معنى لقوله عندنا ، لأنه كان في ماله واجبا كان واجبا فيه ، أوصى به أو لم يوص به ، وكان واجبا في جميعه ، لا في ثلثه كما تجب الديون سواه ، وإن كان غير واجب في ماله حتى يوصي به كان في ثلث تركته كسائر وصاياه ، فانتفى بذلك هذا القول ، وثبت أحد القولين الآخرين .

وكان من حجة من جعله من جميع المال ، وجعله دينا في جميعه كسائر الديون سواه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله عن الحج عن أبيه : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه " ، أكان ذلك يجزئ ؟ وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب المناسك إن شاء الله تعالى .

فجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالدين ، فلا شيء أشبه بشيء من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالآخر .

فكان من الحجة عليه للآخرين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شبهه بالدين كما ذكر ، ولم يقل إنه دين ، وفي تشبيهه إياه بالدين ما يدل على أنه غير دين ، لا يشبه الشيء بنفسه ، وإنما يشبه بغيره مما عليه موجوده فيه ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما قال له : أتيت اليوم أمرا عظيما ، قبلت امرأتي وأنا صائم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم أكان به بأس ؟ " فقال لا ، قال : " ففيم ؟ " .

وكما قال للأعرابي الذي أنكر ولده لما جاءت به امرأته أسود : " هل لك من إبل ؟ " فقال : نعم ، فقال : " فما ألوانها ؟ " فقال : كذا ، فقال : " هل فيها من أورق ؟ " قال : إن فيها لورقاء ، قال : " من أين ترى ذلك جاءها ؟ " فقال : من عرق نزعها ، فقال : " ولعل هذا من عرق نزعه " .

وكان تشبيهه - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرنا إنما هو تشبيهه شيئا بخلافه مما يشبهه الأشياء بنفسه ، وكذلك تشبيهه الحج بالدين دليل على أن الحج غير دين ، ولكنه فرض الله - عز وجل - في الأبدان كالديون المفروضة في الأموال ، فأعلمه أن قضاء الحق الذي لله - عز وجل - على أبيه في بدنه ، كقضائه للحق الذي عليه في ماله .

ولما كان الرجل الذي عليه الديون لأناس شتى مأخوذا بها ، مصروفا ماله فيها ، وكان [ ص: 432 ] من خوضهم في ديون عليه ، ولم يحج حجة الإسلام ، فوجب أن يخاض بين غرمائه في ماله لم يخض بين الحجة وبينهم فيه ، دل ذلك على أن الحجة ليست بموجبة دينا على من هي عليه كديون الآدميين ، وكذلك ما سواها من حقوق الله - عز وجل - ، ومن كفارات الأيمان ، وأسباب الصيام ، وجزاء الصيد ، ودماء التمتع والقران .

وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يطعم عن الصيام الذي كان على المفطرين في شهر رمضان ممن لم يقضه حتى توفي ، وأوصى بقضائه بعد وفاته عن المؤيس لهم من الطاقة على الصيام من الأجناس ، قال ذلك إيجابا ، وممن قاله استحبابا ، وقد ذكرنا ذلك ، وما قاله كل واحد فيما تقدم من كتابنا ، فأغنانا ذلك عن إعادته هاهنا ، غير أنا لم نكن ذكرنا في ذلك الأولى مما قالوه في المقدار الذي يطعم عنه ، فاحتجنا إلى ذكره هاهنا ، فوجدنا الله - عز وجل - قد ذكر الإطعام في غير موضع من كتابه ، فمن ذلك ما ذكره في كفارات الأيمان بقوله - عز وجل - : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ) الآية .

فكان أهل العلم في مقدار ذلك الإطعام مختلفين ، فطائفة منهم تجعله من الحنطة مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتجعله من التمر والشعير مثل ضعف ذلك وهو أربعة أمداد ، ويروون ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعن علي بن أبي طالب .

وطائفة منهم تجعله مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويروون ذلك عن عبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، فلم يكن في هذا دليل في مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرنا ، ومنها الإطعام عن الظهار لمن لم يجد رقبة ، ولم يستطع صوم شهرين متتابعين بقوله - عز وجل - : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) .

فكان أهل العلم مختلفين في مقدار ما يطعم عن ذلك كاختلافهم في مقدار ما يطعم عن كفارة الأيمان ، فلم يكن في ذلك دليل على مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرنا .

ومنها الإطعام في جزاء الصيد بقوله - عز وجل - : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين ) فكان أهل العلم مختلفين في مقدار ما يطعم كل مسكين منهم من ذلك كاختلافهم في مقدار ما يطعم كل مسكين في كفارات الأيمان ، وفي كفارات الظهار ، فلم يكن في ذلك دليل على مقدار الإطعام عن الصيام الذي ذكرناه [ ص: 433 ] .

ومنها الإطعام في الحلق في الإحرام من المرض ، ومن الأذى بقوله : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .

فكان أهل العلم مجمعين في هذا على أنه مدان ، وبذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة لما أذاه هوام رأسه ، وأنزل الله - عز وجل - هذه الآية فأمره أن يحلق رأسه ويذبح شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، أو يطعم ستة مساكين كل مسكين مدين .

فكان هذا مقدارا من الطعام ، متفقا عليه ، غير حرف واحد منه ، وهو أن حديث كعب هذا يقول فيه عبد الله بن معقل ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " مدين من بر " .

ويقول فيه أبو قلابة ، عن ابن أبي ليلى ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، " مدين من تمر " .

ويقول فيه الشعبي ، عن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يحدث يزيد بن ذريع ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، " مدين من تمر " ، غير أن حماد بن سلمة قد رواه ، عن داود ، عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعاد الاختلاف في هذا عن كعب ، ولم نجد في شيء من الإطعام عن غير حلق للرأس في الإحرام من مرض أو من أذى ، " مدين من تمر " أصلا ، إنما وجدنا فيه " مدا من تمر " في كفارات الأيمان ، وفيما سواها في قول وأربعة أصلا ، ومن التمر في قول آخرين .

فلما كان ذلك كذلك لم نجعل للمدين من التمر معنى يعطف عليه غيره ، وجعلنا المدين من البر أولى ، لأن الذي حلق رأسه في إحرامه من المرض أو من الأذى أجمع أن عليه كفارة ما ، وكان إذا أطعم كل مسكين مدين من تمر لم يجزئه ذلك عند بعضهم ، وأجزأه عند [ ص: 434 ] بعضهم ، وكان أولى الأشياء بنا ألا تبطل عن رجل كفارة ، فقد أحطنا علما بوجوبها عليه إلا بعد إحاطتنا علما بزوالها عنه .

ولما وجب أن يكون مقدار الإطعام في حلق الرأس في الإحرام من أذى أو من مرض كما ذكرنا ، وجب أن يكون كذلك مقدار الإطعام في سائر الكفارات من البر ، وإذا وجب ثبوت قول أهل هذا المذهب أن الزبيب في قولهم فيما سوى البر ، أنه أربعة أمداد ، وهكذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقولونه في هذا إلا في الزبيب خاصة فإن محمدا حدثنا ، عن علي ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، أنه " عدل الزبيب في ذلك بالحنطة ، وجعله مدين " . وقد روى الحسن بن زياد ، عن أبي حنيفة خلاف ذلك ، وأنه عدل الشعير بالتمر فجعله كهما وهذا قول أبي يوسف ، ومحمد من رأيهما وهو أحب القولين إلينا .

وأما السويق والدقيق فإن القياس عندنا فيهما أن لا يكونا كالبر فيما يجزئ منه دخول الصنعة إياهما ولإجماعهم على أنه لا يجوز بيعهما بالحنطة .

وقد ذكرنا أقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقدار الإطعام وقد ذكرنا حديث كعب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقدار الإطعام فيما وصفنا ، ولم نأت بأسانيدها لأنها أخرناها إلى مواضعها التي يحتاج إليها فيها فيما بعد من كتبنا هذه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية