أحكام القرآن الكريم للطحاوي

الطحاوي - أبو جعفر الطحاوي

صفحة جزء
وقد ذكرنا بقية ما روي في هذا الكتاب فيما تقدم في كتابنا بأسانيدها ، فكان معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بالطواف " ، أي : ليس المسكين الذي هو في أعلى مراتب المسكنة بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان .

والدليل على ما ذكرناه وعلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله : " ليس من البر الصيام في السفر " إخراج السفر أن يكون موضع صوم .

957 - إن محمد بن عبد الله بن ميمون حدثنا ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، قال : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل في سفره في ظل شجرة ، يرش عليه الماء ، فقال : " ما بال هذا ؟ " قالوا : صائم يا رسول الله ، قال : " ليس من البر الصيام في السفر ، فعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها " .

فدل ذلك أن مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " ليس من البر الصوم في السفر " المعنى الذي تأوله عليه من جعله على معنى : ليس من البر الذي هو أبر البر ، والذي لا رخصة فيه لصائم في السفر وقد بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي .

958 - حدثنا الربيع الأزدي الحيري ، قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو الأسود ، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث ، عن أبي مراوح ، عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - ، أنه قال : يا رسول الله ، إني أسرد الصيام أفأصوم في السفر ؟ قال : " إنما هي رخصة من الله - عز وجل - للعباد ، من قبلها فحسن جميل ، ومن تركها فلا جناح عليه " .

أفلا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر في هذا الحديث أن الإفطار في السفر إنما كان من الله جل وعز رخصة منه لعباده ، لا لأن السفر ليس موضع صوم وقد [ ص: 438 ] روينا فيما تقدم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خروجه في رمضان مسافرا ، وصومه فيه ، وإفطاره بعد ذلك ، وأمره الناس بالإفطار لما شق عليهم الصيام ، وذلك دليل على أن ذلك كان منه - صلى الله عليه وسلم - بعد إنزال الله - عز وجل - : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) .

وقد رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإفطار في السفر ، وفي الصوم في رمضان في السفر آثار أخر قد جاءت مجيئا متواترا .

959 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا ابن أبي عروبة ، عن عبد السلام ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان " يصوم في السفر ويفطر " .

960 - حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن عاصم ، عن مورق العجلي ، عن أنس ، قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فنزلنا يوما شديد الحر ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، وأكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يستر الشمس بيده ، فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " .

961 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن حميد الطويل ، عن أنس ، أنه قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ، " فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " .

962 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدث ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ، تسع عشرة أو لتسع عشرة من رمضان ، " فصام صائمون وأفطر مفطرون ، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء ، ولا هؤلاء على هؤلاء " .

963 - حدثنا علي ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، فذكر بإسناده مثله غير أنه قال : لاثنتي عشرة [ ص: 439 ] .

964 - حدثنا علي ، قال : حدثنا روح ، وحدثنا أبو بكرة ، قال : حدثنا وهب ، قالا : حدثنا هشام ، عن قتادة ، فذكر بإسناده مثله ، غير أنهما قالا : لثماني عشرة .

965 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن حمزة بن عمرو الأسلمي ، قال : يا رسول الله ، أصوم في السفر ؟ وكان كثير الصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " .

966 - حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، قال : حدثني عمران بن أبي أنس ، عن سليمان ، عن حمزة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله.

967 - حدثنا علي ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا سعيد ، وهشام ، عن قتادة ، عن سليمان ، عن حمزة بذلك .

968 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره ، عن سمي ، مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر الناس في سفر عام الفتح بالفطر وقال : " تقووا لعدوكم " ، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال أبو بكر : قال الذي حدثني : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب على رأسه الماء من العطش أو من الحر ، ثم قيل : يا رسول الله ، إن طائفة من الناس صاموا حين صمت ، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكديد " دعا بقدح فشرب ، فأفطر الناس " .


فهذه آثار متواترة فيها صوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في السفر ; فدل ذلك من تأويل ما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر الصوم في السفر " ، على ما تأولناه عليه [ ص: 440 ] .

وقد قال قوم : إنه لا فضل لصوم رمضان في السفر على المفطرين فيه في السفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية